مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
ذكر ابن سعد في طبقاته عن عباد بن حمزة أن
عائشة قالت: يا نبي الله، ألا تكنيني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتني بابنك
عبد الله بن الزبير، فكانت تكنى بأم عبد الله.
وذكر أيضا عن مسروق قال: قالت لي عائشة: لقد
رأيت جبريل واقفا في حجرتي هذه على فرس ورسول الله يناجيه، فلما دخل قلت: يا رسول
الله من هذا الذي رأيتك تناجيه؟ قال: وهل رأيته؟ قلت: نعم، قال: فبمن شبهته؟ قلت: بدحية
الكلبي، قال: لقد رأيت خيرا كثيرا، ذاك جبريل. قالت: فما لبثت إلا يسيرا حتى قال: يا
عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام، قلت: وعليه السلام، جزاه الله من دخيل خيرا.
وكذلك ذكر عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها
قالت: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سأعرض عليك أمرا فلا عليك أن
لا تعجلي به حتى تشاوري أبويك، قلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي" (يا أيها
النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها).. إلى قوله: (فإن الله أعد
للمحسنات منكن أجرا عظيما)..
قالت عائشة: في أي ذلك تأمرني أن أشاور
أبوي؟ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: فسر بذلك النبي صلى الله عليه
وسلم وأعجبه وقال: سأعرض على صواحبك ما عرضت عليك، قالت: فلا تخبرهن بالذي اخترت،
فلم يفعل كان يقول لهن كما قال لعائشة ثم يقول: قد اختارت عائشة الله ورسوله
والدار الآخرة، قالت عائشة: فقد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نر ذلك
طلاقا.
وأخرج أيضا عن عن هشام بن عروة عن أبيه قال:
قالت لي عائشة: يا بن أختي، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يخفى علي حين
تغضبين ولا حين ترضين. فقلت: بم تعرف ذاك بأبي أنت وأمي؟ قال: أما حين ترضين
فتقولين حين تحلفين: لا ورب محمد، وأما حين تغضبين فتقولين: لا ورب إبراهيم. فقلت:
صدقت يا رسول الله.
ولقد كان من أهم مواقفها مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما كان بعد حادثة الإفك الشهيرة، وذلك في سنة ست في غزوة بني
المصطلق، وهذه تفاصيلها:
حادثة الإفك:
{لم يعرف النوم لها سبيلاً منذ علمت الخبر··· ليلتان كاملتان لم تكف عن
البكاء ولا يرقأ لها دمع حتى كاد البكاء أن يفتت كبدها··· شهراً كاملاً وهي مريضة
جليسة الفراش بعد أن عادت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق
وهي لا تعلم ماذا يدور حولها، وماذا يقول الناس عنها، وماذا في قراراة نفس رسول
الله صلى الله عليه وسلم تجاهها·
علمت من أم مسطح فكانت الفجيعة، وأي فجيعة
من أن يتهم إنسان بريء بتهمة لم يقترفها وليس هناك أي دليل على براءته، ولا يجد
أحداً يدافع عنه؟! بل نظرات الاتهام تبدو من أعين من حوله وعلامات الشك تبدو من
أحب الناس إلى قلبه!
وما أفجع أن تتهم المرأة الطاهرة العفيفة
الشريفة في أغلى ما تملك؟ ومن هي؟ إنها الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين، زوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأثيرة قلبه، والمدللة لديه، وابنة الصديق أبي بكر رضي
الله عنه، أول المؤمنين إسلاماً والخليفة الأول للمسلمين···!!
أمر لا تستطيع مفردات اللغة وصف صعوبته على
النفس، لذا آثرت الصمت فالصمت في حال كتلك أبلغ من أي كلام تدافع به عن نفسها،
محنة ما أشدها، وهي محنة قريبة إلى حد بعيد بتلك التي عاشتها السيدة مريم عليها
السلام، لكن الله تعالى في الحالين أنزل تبرئتهما من عنده.
فما المحنة هذه التي ألمت بأطهر النساء!! وما
التهمة التي هي منها براء؟!!
لقد كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أراد سفراً أو غزا غزوة أن يقرع بين نسائه، فجاءت القرعة هذه المرة على السيدة
عائشة رضي الله عنها، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق.
كانت السيدة عائشة خفيفة الجسم وكانت تجلس
في هودجها، وكان القوم إذا أرادوا الإقامة بمكان ما أنزلوا الهودج من على البعير،
وإذا أرادوا الانتقال حملوا الهودج ووضعوه على ظهر البعير ثم ينطلقون به.
وخرجت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات مرة
من هودجها لقضاء بعض حاجتها، وكان في عنقها عقد، فانسل العقد من عنقها دون أن
تشعر، فلما اقتربت من مكان الناس أحست أن العقد ليس في عنقها، فرجعت إلى المكان
الذي كانت فيه لتبحث عن العقد ووجدته، فلما عادت مرة أخرى وجدت الناس قد انطلقوا
وتركوا المكان وكانوا قد ظنوا أن السيدة عائشة داخل هودجها، فاحتملوا الهودج على
ظهر البعير، ولخفة السيدة عائشة وقلة جسمها ظنوا أنها بالهودج، ولم يلحظوا تغييراً
في وزن الهودج.
فلما رأت ذلك تلففت بجلبابها ثم أضجعت في
مكانها وقالت: لو افتقدوني وهم في الطريق سيعودون إلى هذا المكان، فإذا بأحد
الصحابة وهو صفوان بن المعطل السلمي - وكان قد تخلف عن القوم لبعض حاجته ـ يرى
سواد إنسان من بعيد، فتقدم وأقبل عليه، فلما اقترب منها علم أنها السيدة عائشة،
فقال: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، والسيدة عائشة متلففة في ثيابها ثم قال لها: ما
خلفك يرحمك الله؟! فما كلمته، ثم نزل من على بعيره وقربه إليها، وقال لها اركبي،
وتأخر حتى ركبت، ثم أخذ برأس البعير وانطلق سريعاً حتى يدرك الناس.
فلما رأى الناس ذلك تكلم عدد منهم وقالوا
كلاماً لا يليق بأم المؤمنين رضي الله عنها، وبهذا الصحابي الجليل، حتى وصل كلامهم
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر الأمر بين الناس وكان على رأس المتكلمين
بهذا الإفك واتهام السيدة عائشة بما هي منه براء: عبد الله بن أبي بن سلول زعيم
المنافقين.
كانت السيدة عائشة في ذلك الوقت لا تعلم
بشيء مما يقوله الناس؛ لأنها ظلت مريضة نحو شهر لا تغادر فراشها بعد أن رجعت، لكنها
لاحظت تغييراً في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقد كانت إذا اشتكت من وجع
قبل ذلك لا يكف عن ملاطفتها والسؤال عنها، لكنه هذه المرة كان يدخل عليها وفي نفسه
شيء.
تقول السيدة عائشة: "كان إذا دخل
عليَّ وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ (إشارة إلى السيدة عائشة دون أن يوجه لها
كلاماً) لا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسي ـ حزنت ـ فقلت يا رسول الله ـ حين رأيت
من جفائه لي ـ لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك، فانتقلت إلى أمي
ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة".
ظلت السيدة عائشة رضي الله عنها طوال هذه
الفترة لا تعلم شيئاً عما يقوله الناس عنها، ولا تعلم أن تغير النبي صلى الله عليه
وسلم تجاهها بسبب هذا الموقف، حتى خرجت ذات ليلة لقضاء حاجتها وكانت معها أم مسطح،
فبينما هي تمشي معها إذا عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقالت لها عائشة رضي الله
عنها لماذا تدعين عليه؟! يكفي أنه رجل من المهاجرين وقد شهد بدراً، قالت لها: أو
ما بلغك الخبر يا بنة أبي بكر؟ قالت: وما الخبر؟ فأخبرتها بالذي كان وما قاله أهل
الإفك.
وكان مسطح هذا من الذين أشاعوا الخبر بين
الناس وأساؤوا إلى السيدة عائشة.
تقول السيدة عائشة: "فوالله ما قدرت
على أن أقضي حاجتي، ورجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وقلت
لأمي: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي شيئاً؟! قالت: أي
بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر
إلا كثرن وكثر الناس عليها".
ولما شاع الأمر بين الناس قام النبي صلى
الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، ما بال
رجال يؤذونني في أهلي، يقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً،
ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو
معي".
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن
أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما يستشيرهما، فأما أسامة فأثنى على السيدة
عائشة خيراً، وقال له: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم عنهم إلا خيراً، وهذا الكذب
والباطل، وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن
تستخلف، وسل الجارية فإنها تصدقك.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجارية
وسألها فقالت: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن
عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
السيد عائشة وهي في بيت أبيها وعندها امرأة من الأنصار، وكانت تبكي لبكاء السيدة
عائشة، فجلس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة، إنه كان ما بلغك من قول الناس
فاتقي الله، فإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل
التوبة عن عباده.
تقول السيدة عائشة::فوالله ما هو إلا أن
قال لي ذلك حتى قلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً ينزل، وانتظرت أبواي أن يجيبا عني
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما، وأيم الله، لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر
شأناً من أن ينزل الله فيَّ قرآناً يقرأ في المساجد ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن
يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذب به الله عني لما يعلم الله
من براءتي، أو يخبر خبراً، فأما قرآن ينزل فيَّ فوالله لنفسي أحقر عندي من ذلك،
فلما لم أر أبواي يتكلمان، قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالا:
والله ما ندري ما نجيبه، ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر
في تلك الأيام، ثم بكيت وقلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني
لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن
أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني، ثم التمستُ اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن
سأقول كما قال أبو يوسف: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).
ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو عند عائشة في بيت أبويها ثم سُرِّي عنه، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول:
أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك، فقال أبواها: قومي إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس
فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد
أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه
شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولَّى كبره منهم
له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك
مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون· ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه
عذاب عظيم· إذا تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه
هيّناً وهو عند الله عظيم· ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا
سبحانك هذا بهتان عظيم· يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين· ويبيِّن
الله لكم الآيات والله عليم حكيم· إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا
لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) النور:11 ـ 19·
ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمن طعنوا
في شرف السيدة عائشة وأقام عليهم حد القذف، كان منهم مسطح بن أثاثة، وحسان بن
ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانت حمنة هذه أختاً لزينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه
وسلم.
تقول السيدة عائشة: "ولم تكن من نساء
النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تناصيني في المنزلة عنده مثل زينب بنت جحش، فأما
زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيراً، وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من
ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فشقيت بذلك".
فلما حدث ذلك قال أبوبكر رضي الله عنه ـ
وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً، ولا
أنفعه بنفع أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى في ذلك: (ولا يأتل أولوا
الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) النور:22
فقال أبوبكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر
الله لي، وأعاد نفقته على مسطح.
وهكذا انقشعت هذه السحابة السوداء التي
ألمت ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخيرة نسائه وأحبهم إلى قلبه، وبرأ الله
تعالى ساحة السيدة عائشة من فوق سبع سموات، بعد أن عانت رضي الله عنها، ما عانت
جراء هذه التهمة الشنيعة، لكن الله تعالى ناصر أوليائه ولو بعد حين}.ا.هـ.
(من موقع مجلة الوعي الإسلامي، والقصة في صحيحي البخاري ومسلم).
ذكر ابن عبد البر عن أبي عمرأنه قال: أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بالذين رموا عائشة بالإفك حين نزل القرآن ببراءتها،
فجلدوا الحد ثمانين، فيما ذكر جماعة من أهل السير والعلم بالخبر، وقال قوم: إن
حسان بن ثابت لم يجلد معهم ولا يصح عنه أنه خاض في الإفك والقذف.
وقد روي أن حسان بن ثابت استأذن على عائشة
بعدما كف بصره فأذنت له، فدخل عليها فأكرمته، فلما خرج من عندها قيل لها: أهذا من
القوم؟ قالت أليس يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
هذا البيت يغفر له كل ذنب.
بعض المواقف من حياتها مع
الصحابة
كان من أهم المواقف في حياتها رضي الله
عنها مع الصحابة ما جاء في أحداث موقعة الجمل في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين،
والتي راح ضحيتها اثنان من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هما: طلحة والزبير
رضي الله عنهما، ونحو عشرين ألفا من المسلمين، وتفصيل ذلك وارد في موضعه.
وقد أخرج ابن عبد البر عن ابن عباس أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها
قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت؟" وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه
وسلم.
وأخرج ابن عبد البر أيضا عن ابن أبي عتيق
قال: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر
فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلا قد غلب
عليك وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت.
بعض المواقف من حياتها مع
التابعين:
أخرج ابن سعد عن ابن أبي الزناد عن أبيه
قال: دخل بن أبي عتيق على عائشة وهي ثقيلة فقال: يا أمة، كيف تجدينك جعلت فداك؟
قالت: هو والله الموت، قال: فلا إذا، فقالت: لا تدع هذا على حال، تعني المزاح.
وأخرج المزي عن عبد الله بن كثير بن جعفر
قال: اقتتل غلمان عبد الله بن عباس وغلمان عائشة، فأخبرت عائشة بذلك، فخرجت في
هودج على بغله فلقيها بن أبي عتيق فقال: أي أمي، جعلنى الله فداك أين تريدين؟ قالت:
بلغني أن غلماني وغلمان بن عباس اقتتلوا فركبت لأصلح بينهم. فقال: يعتق ما تملك إن
لم ترجعي، قالت: يا بني، ما الذي حملك على هذا؟ قال: ما انقضي عنا يوم الجمل حتى
تريدي أن تأتينا بيوم البغلة!
أثرها في الآخرين ( الدعوة - التربية)
من أبلغ أثرها في الآخرين أنها رضي الله
عنها روى عنها مائتان وتسعة وتسعون من الصحابة والتابعين أحاديث الرسول صلى الله
عليه وسلم.
وعن دورها رضي الله عنها في التعليم
والإفتاء والإرشاد يقول السيد سليمان الندوي:
{إن الخدمة الحقيقية للعلم هي تبليغه إلى الآخرين واستخدامه في مجال تزكية
النفوس وإصلاح الأمة وإرشادها إلى الصراط المستقيم، ولذلك جاء أمر النبي صلى الله
عليه وسلم بكل صراحة ووضوح: " فليبلغ الشاهد الغائب"، فهل قامت عائشة
رضي الله عنها بأداء هذه الفريضة وأدت مسئولية التعليم الملقاة على كاهلها؟
ومن هنا ندعو أولئك الذين يزعمون أن القيام
بفريضة التعليم، وتبليغه ونشره اختص به صنف الرجال دون النساء أن يصحبونا لكي
ينكشف عنهم الغبار ويتضح لديهم الواقع ويتجلى أمام أعينهم الدور البارز الملموس
لهذا الصنف الرقيق الذي شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالقوارير.
التعليم:
من الحقائق التاريخية الثابته أن صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتشروا في مختلف أرجاء العالم وشتى البلدان بعد
النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بواجب التعليم والدعوة والإرشاد، وكان بلد الله
الحرام والطائف والبحرين واليمن والشام ومصر والكوفة والبصرة وغيرها من المدن
الكبار مقرا لهؤلاء الطائفة المباركة من الصحابة.
وانتقلت دار الخلافة الإسلامية بعد مضي سبع
وعشرين سنة من المدينة المنورة إلى الكوفة، ثم إلى دمشق إلا أن هذه الحوادث
وانتقال دار الخلافة من مكان إلى مكان لم يزلزل تلك الهيبة العلمية والمعنوية
والروحية التي قد ترسخت في قلوب الناس تجاه المدينة المنورة، وكانت المدينة
المنورة حينذاك محتضنة عدة مدارس علمية ودينية يشرف عليها كل من أبي هريرة وابن
عباس وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم.
إلا أن أعظم مدرسة شهدتها المدينة المنورة
في ذلك الوقت هي زاوية المسجد النبوي التي كانت قريبة من الحجرة النبوية وملاصقة
لمسكن زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت هذه المدرسة مثابة للناس يقصدونها
متعلمين ومستفتين حتى غدت أول مدارس الإسلام وأعظمها أثرا في تاريخ الفكر
الإسلامي، ومعلمة هذه المدرسة كانت أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالذين كانوا من محارمها وأقربائها من
الرجال والنساء ضمتهم إليها وربتهم في حجرها وعلمتهم، أما الآخرون فيدخلون وعليها
الحجاب ويجلسون بين يديها من وراء حجاب في المسجد النبوي.
كان أناس يستفتونها ويسألونها عن مختلف
القضليا وهي تجيبهم فينالون بركة تلقي السنة النبوية الشريفة غضة ندية من فم أم
المؤمنين السيدة التي كانت ألصق الناس بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم
منه، وربما كانت هي التي تثير سؤالا ثم تبدأ في الإجابة عليه، ويستمع الناس لها
بآذان صاغية وقلوب واعية.
كما أنها كانت تولى عناية فائقة واهتماما
بالغا بتصحيح لغة تلايذها وتعويدهم على النطق الصحيح مع مراعاة القواعد اللغوية.
قال ابن أبي عتيق: تحدثت أنا والقاسم عند
عائشة رضي الله عنها حديثا، وكان القاسم رجلا لحانة وكان لأم ولد، فقالت له عائشة:
"مالك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أُتيت؟ هذا
أدبته أمه وأنت أدبتك أمك"، وكانت أم القاسم أمَة.
كما أنها كانت تقوم بتربية وحضانة عدد من
اليتامى والمساكين غير هؤلاء التلامذة، وما كانت تضن على أحد منهم بشيء من العلم، أما غير المحارم فكانت تجتجب عنهم.
والذين لم تسنح لهم فرص الدخول على أم
المؤمنين لكونهم من غير المحارم كانوا يتأسفون ويحزنون على عدم تمكنهم من
الاستفادة الخاصة، يقول قبيصة: "كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة".
وقد دخل الإمام إبراهيم النخعي (إمام أهل
العراق) على عائشة رضي الله عنها في صباه، فكان أقرانه يحسدونه على ذلك، عن أبي
معشر عن إبراهيم النخعي: "أنه كان يدخل على عائشة، قال: قلت: وكيف كان يدخل
عليها؟ قال: كان يخرج مع خاله الأسود، قال: وكان بينه وبين عائشة إخاء وود".
كان من عادتها رضي الله عنها أنها كانت تحج
كل عام، حيث تكون نقطة تجمع للمسلمين في مكان واحد وفي يوم واحد، فتضرب لها الخيام
بين جبل حراء وثيبر ويقصدها طلاب العلم وعطاش المعرفة من مشارق الأرض ومغاربها
لينالوا بركة تلقي السنة النبوية غضة ندية من فم أم المؤمنين رضي الله عنها.
ولم تكن رضي الله عنها تتحرج من إجابة
المستفتين عن أي مسألة من مسائل الدين، ولوكانت تتعلق بالشؤون الخاصة، بل كانت
تشجع المستفتين الذين يأخذهم الحياء أحيانا من السؤال عن مثل هذه الشؤون، وعندما
قال لها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إني أريد أن أسألك عن شيء
وإني أستحييك، فقالت: "سل ولا تستحي فإنما أنا أمك".
والواقع أنها كانت تربي تلامذتها مثل الأم،
وتتجلى لنا هذه الصفة في تعليم وتربية عروة والقاسم وأبي سلمة ومسروق وعمرة وصفية
رضي الله عنهم، وكانت تتكفلهم وتنفق علهم من مالها الخاص.
وكان بعض أقاربها يحسد بعض تلامذتها لما
يرون من معاملتها الخاصة معهم، وهذا عبد الله بن الزبير الذي كان من أحب الناس إلى
عائشة رضي الله عنها وابن أختها كان يقول للأسود بن يزيد: " أخبرني بما كانت
تفضي إليك أم المؤمنين".
وكان تلاميذها أيضا يوقرونها ويجلونها، وهذه
عمرة - تلميذتها الخاصة - كانت أنصارية لكنها تنادي أم المؤمنين بالخالة، وقد تبنت
عائشة رضي الله عنها مسروق بن الأجدع التابعي الجليل، فكان إذا حدث عنها يقول:
"حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة".
هذا وقد تخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها عدد كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين، ومسند الإمام أحمد بن
حنبل يضم في طياته أكبر عدد من مروياتها رضي الله عنها، وحسب الإحصائية التي قمت
بها أنها بلغت مائتي رواية، سواء رواها عنها الصحابي أو التابعي، الحر أو العبد،
القريب أو البعيد، وقد أفرد الإمام أبوداود الطيالسي رحمه الله (ت 204 هـ) مرويات
تلامذتها على حدة في مسنده، ولكنه مختصر جدا، فلم يحتو على عدد كبير من الأحاديث،
وعد الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى تلامذتها وذكر أخبارهم، كما أن الحافظ ابن
حجر العسقلاني قام بإحصاء الرواة عنها من أقاربها ومواليها والصحابة والتابعين في
كتابه تهذيب التهذيب.
الإفتاء:
قضت السيدة عائشة رضي الله عنها بقية عمرها
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كمرجع أساسي للسائلين والمستفتين، وقدوة يقتدي
بها في سائر المجالات والشؤون، لكن من حسن حظنا أن خزانة تراثنا الإسلامي غنية
بتلك الشهادات المسجلة القاطعة والحاسمة التي تؤكد لنا وتجعلنا نقطع بالقول: إن
عائشة رضي الله عنها كانت مرجع الصحابة في كل شيء، وما أشكل عليهم شيء من الحديث
أو الفقه إلا وجدوا عندها منه علما، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومشيختهم يسألونها ويستفتونها.
وقد عدها ابن القيم في المكثرين من الفتيا
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"وكانو بين مكثر منها ومقل ومتوسط" والذين حفظت
عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين
رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله
بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس
رضي الله عنهم. قال أبومحمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
عائشة تفتي في عهد الخلفاء
الراشدين:
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد
استقلت بالفتوى وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين، وبقيت على هذا المنصب في زمن
الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل.
يقول القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة في
المدينة المنورة:
"كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر
وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت يرحمها الله".
وحتى عمر الفاروق رضي الله عنه الذي كان
مجتهد الإسلام والدين لم يستغن عن هذه المشكاة النبوية.
وكما هو معروف أن كل صحابي لم يكن مسموحا
له بالافتاء في عهد عمر رضي الله عنه، بل كان ذلك الأمر إلى البعض من خاصة أصحاب
الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين كانوا يفتون، وهذا يدلنا على مدى اعتماد عمر
رضي الله عنه على عائشة أم المؤمنين والاعتراف بفضلها ومكانتها العلمية وسعة
اطلاعها ومعرفتها}..هـ.
بعض الأحاديث التي نقلتها عن
المصطفى صلى الله عليه وسلم:
بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد
روت رضي الله عنها عن عشرة من صحابته صلى الله عليها وسلم، وهم:
والدها الصديق أبي بكر، وعمر بن الخطاب،
وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسيد بن حضير، وجدامة بنت وهب، والحارث
بن هشام بن المغيرة، وحمزةبن عمرو بن عويمر، وحمنة بنت جحش، ورملة بنت أبي سفيان،
وسعد بن مالك بن سنان.
وهذه بعض الأحاديث التي روتها:
أخرج البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ
صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ
وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا
فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ
فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
وأخرج أيضا عَنْ عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ
مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ
يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا.
بعض كلماتها:
أخرج ابن سعد عن عائشة أنها قالت حين حضرتها الوفاة: يا ليتني لم أخلق، يا
ليتني كنت شجرة أسبح وأقضي ما علي.
0 commentaires:
إرسال تعليق