فإن العزة خُلُق عظيم، وخِلَّة كريمة، تهفو إليها القلوب الحية،
وتسعى لنيلها النفوس الأبيّة، وإن السعادة لمطلب مُلح، وهدف منشود، وغاية
مبتغاة، وكل الناس يبحث عن هذه المعاني ويسعون لها سعيها، فيسلكون إليها كل
سبيل، ويركبون لها كل صعب وذلول، ولكن قلَّ من يهتدي إليها، ويوفّق لها.
فالقرآن الكريم حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، سمّاه الله
نوراً، وتبياناً، وموعظة، ورحمة، وشفاءً لما في الصدور، لا تنقضي عجائبه،
ولا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ، لا يَعْـوَجُّ فيُقَوَّم، ولا يزيغ فيستعتب،
فيه القصصُ العجيبةُ، ودلائلُ التوحيدِ والنبوة، فيه المواعظ الحسنة
النافعة، وفيه البراهينُ الجليّةُ القاطعة، التي تسبق إلى الأفهام ببادئ
الرأي، وأول النظر، ويشترك كافةُ الخلق في إدراكها؛ فهو مثلُ الغذاءِ ينتفع
به كلُّ إنسانٍ، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجلُ القويُّ
والضعيف. فيه الحثُّ على كل خلق جميل، وفيه التنفير من كل خلق ساقط رذيل خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
هذا القرآن هو الذي أحرزت به الأمة سعادة الدارين، وهو الذي
اجْتَثَّ منها عروق الذلة والإستكانة؛ فهو الذي ربّاها وأدبها، فزكَّى منها
النفوس، وصفَّى القرائح، وأذكى الفِطن، وجلا المواهب، وأعلى الهمم، وأرهف
العزائم، واستثار القوى، وغرس الإيمان في الأفئدة، وملأة القلوب بالرحمة،
وحفَزَ الأيديَ للعمل النافع، والأرجلَ للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على
ما في الأرض من شر وباطل وفساد،فطهرها منه تطهيراً، وعمَّرها بالحق والخير
والإصلاح تعميراً.
هذا القرآن نور الصدور، وجلاء الهمِّ والغمّ، وفرح الفؤاد، وقرة العين.
هذا القرآن هو الذي أنار العقول على النور الإلهي فأصبحت كشَّافةً عن
الحقائق العليا، وطهَّر النفوس من أدران السقوط والإسفاف فأصبحت نزَّاعة
إلى المعالي، مُقْدِمةً على العظائم. وبهذه الروح القرآنية إندفعت تلك
النفوسُ بأصحابها تفتح الآذانَ قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسانِ
الأرواح قبل الأشباح.
هذا القرآن هو الذي أخرج الله به من رعاة النَّعم رعاةَ الأمم، ومن خمول الجهل أعلام الحكمة، والعدل والعلم.
ولكنَّ السرَّ كلَّ السرِّ ليس في تلاوته فحسب، وإنما هو في تدبره،
وعقله، والتخلق بأخلاقه، والإئتمار بأوامره، والإنتهاء عن نواهيه، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ورحم الله الإمام الشاطبي إذ يقول:
جعلنا الله من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وجعلنا مفاتيح
للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
0 commentaires:
إرسال تعليق