وهب الله للإنسان القدرة على إدراك ما حوله
في الطبيعة من العوالم المختلفة ، ومشاهدة غرائب الكون وعجائبه ، دون
إدراك ما وراء ذلك من عوالم أخرى تُشاركه في هذا الوجود، والتي أثبت الشرع
حقيقتها ، كعالم الملائكة والجنّ والشياطين ، ومن هنا كان إدراك النبي –
صلى الله عليه وسلم – لتلك العوالم الغائبة عن حواسّ البشر ، وقدرته على
التعامل معها والإخبار عن أحوالها في مواقف عديدة من جملة آياته وكراماته .
فقد مكّنه الله تعالى من رؤية الملائكة ،
وسماع أقوالهم ، والكلام معهم ، والوقوف على أخبارهم ، وكان في إدراكه عليه
الصلاة والسلام لهذا العالم إعانةٌ له على أداء مهمّته في تلقّي الوحي
وأداء الرسالة .
فمن ذلك إخباره – صلى الله عليه وسلم – عن أوصاف الملائكة ورؤيته لجبريل
عليه السلام ، وله ستمائة جناح يتساقط منها الدرّ والياقوت ، قد سدّ
بجناحيه الأفق ، وتمثّل بعض الملائكة له على صورة البشر ، كما فعل جبريل
عليه السلام عندما جاء يسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أركان
الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عن
مجيء الملك على صورة الصحابي الجليل دحيّة الكلبي .
ومن ذلك أيضا إخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عبادة الملائكة وطاعتهم لربّهم ، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحق لها أن تئطّ
، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ) رواه الترمذي ، ومعنى ( أطّت السماء ) أي صاحت وصدر منها صوتٌ من ثقل ما عليها من الملائكة والساجدين لله رب العالمين .
وأخبر عليه الصلاة والسلام عن تغسيل الملائكة لحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه عندما قٌتل في معركة أحد ، ولم يمض على زواجه سوى يوم واحد ، والقصّة بتمامها في صحيح ابن حبّان .
وأخبر – صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الملائكة لرجلين من العصاة عندما مرّ بقبرهما فقال : ( إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) رواه البخاري .
وأما ما يتعلّق بعالم الجن الشياطين ، فقد
أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم - عن أحوالهم وذكر طرفاً من أخبارهم ، من
ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام عن إغواء الشياطين لبني آدم في الصلاة ،
وكراهيّتهم سماع الأذان ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( إذا نودي للصلاة ، أدبر الشيطان وله ضراط ، حتى لا يسمع التأذين ، فإذا
قُضي النداء أقبل ، حتى إذا ثوّب بالصلاة – أي : أقيمت الصلاة - أدبر ، حتى
إذا قضي التثويب أقبل ، حتى يخطر بين المرء ونفسه ، يقول : اذكر كذا ،
اذكر كذا لما لم يكن يذكر ، حتى يظلّ الرجل لا يدري كم صلى ) رواه البخاري .
ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام عن تواجد الشياطين في الفرجات التي تكون بين صفوف الصلاة ، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( راصوا صفوفكم وقاربوا بينها ، وحاذوا بالأعناق ، فوالذي نفس محمد بيده
إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف ، كأنها الحذف – أي صغار الغنم - ) رواه النسائي .
وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن محاولة إبليس إيذاءه ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه ، فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال :
( لو رأيتموني وإبليس ، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه
بين أصبعي هاتين – وأشار إلى الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد ، يتلاعب به صبيان المدينة ) رواه أحمد .
وكان للنبي – صلى الله عليه وسلم – لقاء مع
وفدٍ من الجنّ ، دعاهم فيه إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، فأسلموا وحسن
إسلامهم ، وذكر المؤرّخون كالحافظ ابن حجر وغيره أسماء بعضهم ، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } : " كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم " رواه الطبراني .
وبيّن النبي – صلى الله عليه وسلم – الفرق بين طبيعة تلك المخلوقات وبين خلق الإنسان ، فقال : ( خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم ) رواه مسلم .
فمن الذي أخبر رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – عن أوصاف تلك المخلوقات ؟ ، ومن الذي أخبره بطبيعة خلقها ؟، لا شك
أن مصدر ذلك هو وحي السماء وليس خبر الأرض ، وصدق الله إذ يقول : { إن هو إلا وحي يوحى } ( النجم : 4 ) .
0 commentaires:
إرسال تعليق