بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
الصفة الأولى: الوجود
الأصلُ الذي تُبنى عليه العقيدةُ الإسلاميةُ معرفةُ الله ومعرفةُ رسولِهِ، فمعرفةُ الله هو العلمُ بأنه تعالى موجودٌ، فيجب اعتقادُ أنه تعالى موجودٌ في الأزلِ أي لا ابتداءَ لوجودِهِ ، قال تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال: }هو الأوَّلُ{ أي هو الذي لا ابتداءَ لوجودِهِ، روى البخاريُّ في الصحيحِ والبيهقيُّ وأبو بكرِ بن الجارودِ عن عمرانَ بنِ الحُصينِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاءَه قومٌ من أهلِ اليمنِ فقالوا: يا رسولَ الله جئناك لنَتَفَقَّهَ في الدينِ ولنسألَكَ عن بدءِ هذا الأمرِ ما كانَ، وفي لفظٍ: "عن أولِ هذا الأمر"، قال: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ وكان عرشُهُ على الماءِ وكتَبَ في الذّكرِ كُلَّ شىءٍ". كانَ سؤالُهُم عن أولِ العالمِ ثم الرسولُ أجابَهُم بما هو أهَمُّ من ذلِك وهو قولهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" أي أن الله موجودٌ في الأزلِ لا ابتداءَ لوجودِهِ ولم يكن في الأزلِ معه شىءٌ أي لا زمانٌ ولا مكانٌ ولا أجرامٌ([5]).
وأتبَعَ ذلك جوابَهُم بأن الماءَ والعرشَ وُجِدا قبلَ غيرهِما من المخلوقاتِ فأعلمهُم أن الماء قبل العرشِ لأنه لما قال لهم "وكان عرشُهُ على الماءِ" أفهمَهُم أن الماءَ خُلق قبل العرشِ.
وأما معرفةُ الرسولِ فهو العِلمُ بأنهُ مبلغٌ عن الله صادقٌ فيما جاءَ به في الإيجابِ والتحريمِ والإخبارِ عن ما مضى وعما ما سيَحدُثُ في الدنيا والبرزخِ والآخرةِ، فمن جزَمَ بذلك بلا شكٍّ ولا ارتيابٍ فهو عارفٌ بالله ورسولِهِ ومؤمِنٌ بالله ورسولِهِ سواءٌ عرَفَ الدليلَ العقليّ على ذلك أو لم يَعرِف. وضلت المعتزلةُ باشتراطِ معرفَةِ الدليلِ العقليّ لصحةِ الإيمانِ، وأما أهلُ الحقّ فلا يَشتَرطونَ ذلك ولكنهُم يرونَ الاستدلالَ على وجودِ الله تعالى بدليلٍ عقليّ ولو كان إجماليًّا واجبًا، وهذا الدليل الإجماليُّ حاصلٌ لكلّ مؤمنٍ ولو لم يعرف ترتيبَ هذا الدليلِ كأن يقالَ العالمُ مُتغيرٌ وكلُّ مُتغيرٍ حادثٌ فالعالم حادث فلا بد له من محدِثٍ وهذا المحدِثُ هذا الموجِدُ هو الذي يسمى الله، فإن من نظرَ بعقلِهِ نظرًا صحيحًا يدلُّه على ذلك. والاستدلالُ الإجماليُّ لا يخلو منه المسلمُ العالِمُ أو العاميُّ ويسمى ذلك الاستدلالُ استدلالا طبيعيًّا. ولا يُتصَوَّرُ فِقدانُ الدليلِ الإجماليّ في مسلمٍ إلا فيمن نشأ على شاهقِ جبلٍ سمع أُناسًا يقولونَ إن للخلقِ ربًّا خلقهم يستحقُّ العبادَة عليهم، فصدَّقهُم إجلالا لهم عن الخطَإ واعتقدَ ذلك ولم يتفكر في شىء من الدليل، وهذا أيضًا إيمانُه صحيحٌ لكنه يجبُ عليه الاستدلالُ. فالمؤمنُ الذي لم يستدلَّ قال أهلُ الحقّ إنَّهُ عاصٍ وذلك لأن الله تباركَ وتعالى أمَرَ بالتّفكُّرِ في خلقِهِ ليستدلوا بحالِ العالمِ على وجودِ خالقِهِ. ثم بعد معرفةِ وجودِ الله تعالى وتفردِه باستحقاقِ العبادةِ أي نهاية التذللِ يجبُ عليه معرفة بقيةِ الثلاث عَشرَةَ صفة من صفاتِ الله وهي: القِدَمُ، والبقاءُ، والمخالفةُ للحوادثِ، وقيامُهُ بنفسِهِ، والوحدانيَّةُ، والحياةُ، والقدرةُ، والإرادةُ، والعلمُ، والسمعُ، والبصرُ، والكلامُ.
والدليلُ الإجماليُّ لهذه الصفات هو أن يقالَ: لو لم يكُن الله تعالى متصفًا بهذه الصفاتِ لم يكنِ العالمُ موجودًا، فهذا الاستدلالُ الإجماليُّ كافٍ للاستدلالِ الواجبِ.
وأما الأدلةُ التفصيليَّةُ فمعرفتُها ليست من فروضِ العينِ بل هي من فروضِ الكفاية، فإذا وُجِدَ في المسلمين من يعرفُ بقية الصفاتِ الثلاث عشرة وما يتبعُ ذلك من أصولِ الاعتقادِ بالدليلِ العقليّ فقد أسقَطَ الحَرَجَ عن غيرِه من المسلمينَ وذلك لأنَّه يحتاجُ إلى ذلك لردّ شُبهِ الملاحِدَةِ والمبتدِعَةِ في الاعتقادِ. فلو جاءَ مُلحدٌ وقال للمسلمينَ أعطوني دليلا عقليًّا على وجودِ الله تعالى فلا بد من رفعِ شُبهِهِ وتشكيكاتِهِ بإيرادِ أدلَّةٍ تفصيليةٍ من البراهينِ العقليةِ لأن هذا الملحدَ إذا قيل له قال الله تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شَىءٍ قَديرٌ{ وقال: }وهو بكلِّ شىءٍ عليمٌ{ وقال: }هُوَ الأوَّلُ{ وقال: }إنَّ الله لغنيٌّ عن العالمين{ ونحو ذلك، قال الملحدُ أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم، أنا لا أريدُ أن تذكرَ لي من كتابِكم شيئًا، فكيفَ تدفَعُ شُبَهَهُ وتشكيكاتِه؟ مثالٌ لذلك لو قال عابدُ الشمسِ: إن معبودي محسوسٌ ظاهرٌ نافعٌ للإنسانِ ولسائرِ الحيوانِ والنباتِ والماءِ والهواءِ كيف لا يكونُ ديني هذا حقًّا ونحنُ وأنتُم نعلم أنَّ هذا موجودٌ وهي محسوسةٌ بحاسةِ البصرِ، فكيف تقولون إنَّ دينيَ هذا باطلٌ، فإن هذا إن قيل له قال تعالى كذا يقول أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم أُريدُ منكُم دليلًا عقليًّا، إن وجدتُم ذلك وأقمتُم لي فأنا أُسَلّم لكم وإلا فَكيفَ تطلبونَ مني أن أؤمنَ بدينكُم. فكيف تُقامُ على هذا الحجةُ؟.
فهؤلاءِ الذين يظنونَ أن علمَ التوحيدِ لا يشتملُ على بيانِ البراهينِ العقليةِ والبراهينِ النقليةِ مع الحاجةِ الشديدةِ إلى ذلك، لا يستطيعونَ أن يُفحِموا هذا الكافرَ وإنما يستطيعُ إفحامَهُ السُّني الذي يُنَزّهُ اللهَ عن الكيفِ والحدّ والتحيُّزِ بالمكانِ والجهةِ، فيقول له: معبودُك هذا له حدٌّ وشكلٌ فيحتاجُ إلى من جعلَهُ على هذا الحدّ والشكلِ، والمعبودُ الحقُّ هو الموجودُ الذي ليس له حدٌّ ولا شكلٌ فلا يحتاجُ إلى غيرِه، أما معبودُك الذي هو الشمسُ فلا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو أَوجَدَ نفسَهُ على هذا الحدّ وهذا الشكلِ، إنما الذي يستحِقُّ أن يُعبَدَ هو معبودُنا الذي هو موجودٌ لا كالموجوداتِ، فهنا ينقطع عابِدُ الشمسِ.
و القرآنُ أرشَدَ إلى الاستدلالِ العقليّ بعِدّةِ ءاياتٍ كقوله تعالى: }وفي أنفسكم أفلا تُبصِرُون{ أي أنَّ في أنفُسِكُم دليلا على وجودِ الله. وذكر لذلك بعضُ عُلماءِ العقيدَةِ مثالا وهو أن يقالَ أنا كنتُ بعد أن لم أكن وما كان بعد أن لم يكُن فلا بدَّ له من مُكوِّنٍ فأنا لا بُدَّ لي من مُكوِّنٍ.
ويُستنتَجُ من هذا القولِ انّ ذلك المُكَوِّنَ لا يكونُ شبيهًا لي ولا لشىءٍ ما من الحادثاتِ التي هي مشارِكةٌ لي في الحدوثِ، وهذا المُكَوِّنُ هو المُسَمَّى الله.
الصّفَةُ الثانِيَةُ: القِدَمُ
القِدمُ معناهُ الأزلية فإذا قيل الله قديمٌ معناه لا ابتداءَ لوجودِهِ، هذا في حق الله أما في حق غيره إذا قيل قديمٌ فمعناه مضى عليه زمانٌ طويلٌ، كذلك الأزليُّ، فالله تعالى هو الأزليُّ بهذا المعنى أي لا ابتداءَ لوجودِهِ فلا أزلي إلا الله، وأما الأزليُّ بمعنى قِدَمِ العهدِ والزمنِ فيوصفُ به المخلوقُ لغةً وعلى لسانِ حَمَلَةِ العِلمِ. أما لُغةً فقد قال الفيروز ابادي صاحب القاموس في مادةِ هرم: الهرمانِ بِناءانِ أزليانِ بمصرَ. فالله تبارك وتعالى هُوَ القديمُ، هو الأزليُّ بمعنى لا ابتداءَ لوجودِهِ، وما سواهُ لا يقالُ عنه قديمٌ ولا أزليٌّ بهذا المعنى إلا بالمعنى الثاني وهو تقادمُ العهدِ وطولُ الزمنِ، ولم يَرِد في القرءانِ إطلاقُ القديمِ على الله بهذا اللفظِ لكن وردَ معناه قالَ تعالى: }هُوَ الأوَّلُ{ لأنهُ لا يجوزُ تفسيرُهُ بقدَمِ العهدِ لأنَّ قِدمَ العهدِ صفةٌ من صفاتِ المخلوقاتِ والله تعالى كانَ قبلَ الزمانِ فلا يوصفُ بقدمِ الزَّمَنِ.
قال أهلُ الحقّ: الموجوداتُ ثلاثةُ أقسامٍ: القسم الأول: أزليٌّ أبديٌّ وهو الله تعالى وصفاتُه فقط وصفاتُه كلُّها أزليةٌ بأزليةِ الذاتِ، ولمَّا ثبتَت الأزليةُ لذاتِ الله تعالى ثبتَت الأزليةُ لصفاتِهِ، وورَدَ في غيرِ هذا اللفظِ الدِلالةُ على أزليةِ الله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضِعَ كقوله تعالى: }وكان الله غفورًا رحيمًا{ ونحو ذلك ومعناه إنه غفورٌ رحيمٌ في الأزلِ، كذلك قوله تعالى: }وكان الله عليمًا حكيمًا{ فالأَزليةُ في القرءانِ لو لم يَرِد نصُّها لكِنَّ معناها ثابتٌ في أكثر من موضِعٍ في القرءانِ الكريمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ حديثُ البخاريّ الذي سبَقَ ذِكرُهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" فإذا عُرِفَ هذا فمن ادَّعى الأزليةَ لشىءٍ غيرِ الله فقال العالمُ أزليٌّ بنوعِهِ أي بجنسِهِ وأشخاصِهِ فهو كافرٌ، ومن قال العالم أزليٌّ بجنسه لا بأفراده المعينة فإنها مخلوقة حادثة فهو كافر أيضًا وهو رأيُ الفلاسفَةِ المحدَثينَ وابنِ تيميةَ.
القسمُ الثاني من الموجودِ: أبديٌّ لا أزليٌّ وهو الجنةُ والنارُ.
القسمُ الثالثُ: لا أزليٌّ ولا أبديٌّ وهو ما سوى الجنةِ والنارِ من المخلوقاتِ ويُلحقُ بهما ما في الجنةِ من الحورِ والولدانِ وأشياء أخرى على ما قال بعضُ أهلِ العلمِ.
وأما أزليٌّ لا أبديٌّ فهذا مستحيلٌ، الأزليُّ لا يكونُ إلا أبديًّا فالله تعالى أزليٌّ أبديٌّ بصفاتِهِ، أي أن صفاته أيضًا أزليةٌ أبديةٌ.
الصفةُ الثالثةُ: البقاءُ
البقاءُ معناه لا نهايَةَ لوجودِهِ تعالى لأنَّ ما ثبتَ له القِدَمُ وجبَ له البقاءُ فيمتَنِعُ عليه العدَمُ أي يستحيلُ عليه العدمُ.
والبرهانُ على وجوبِ البقاءِ لله تعالى من المنقولِ قولُ الله تعالى }ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلالوالإكرام{ الوجهُ هنا معناه الذاتُ، وقال البخاريُّ:: "إلا مُلكَهُ، ويقال: إلا ما أريدَ به وجهُ الله".
وأما برهانُ البقاءِ العقليّ فهو أن يقالَ: لو لم يكنِ الله تعالى باقيًا لم يكنِ العالمُ موجودًا لكنَّ العالمَ موجودٌ فثبتَ أن الله تعالى باقٍ. والبقاءُ الذي هو واجبٌ لله هو البقاءُ الذاتيُّ أي ليس بإيجابِ شىءٍ غيرِه له بل هو يستحقُّهُ لذاته لا لشىءٍ ءاخرَ، بقاءُ الله تعالى ذاتيٌّ ولا يكون لشىءٍ سواهُ هذا البقاءُ الذاتيُّ. إنما البقاءُ الذي يكون لبعضِ خَلقِ الله تعالى كالجنةِ والنارِ الثابتُ بالإجماعِ فهو ليس بقاءً ذاتيًّا لأنَّ الجنة والنارَ حادثتانِ والحادِثُ لا يكون باقيًا لذاتِهِ، فبقاءُ الجنةِ والنارِ ليس لذاتهما بل لأن الله تعالى شاء لهما البقاءَ.
الصفةُ الرابعةُ: الوحدانيةُ
ومعناه أنَّ الله تبارك وتعالى ليسَ له ثانٍ وليسَ مركَّبًا مؤلَّفًا كالأجسامِ كالعرشِ والكرسيّ والجنةِ والنارِ والسمواتِ السبعِ والإنسانِ والملائكةِ والجنّ فإنَّ هؤلاء أجسامٌ مؤلفةٌ أي تقبلُ الانقسامَ . العرشُ الكريمُ مؤلَّفٌ من أجزاء فيستحيلُ أن يكون بينه وبين الله مناسبةٌ كما يستحيلُ على الله تعالى أن يكون بينَه وبين شىءٍ من سائر خلقِهِ مناسبةٌ.
والبرهانُ العقليُّ على الوحدانيةِ أنه تبارك وتعالى لو لم يكن واحدًا وكان مُتَعَدّدًا لم يكن العالَمُ منتظمًا لكنَّ العالَمَ منتظِمٌ فوجَبَ أنَّ الله تعالى واحدٌ، وأما البرهانُ النقليُّ على وحدانيتِهِ تعالى فكثير من ذلك قول الله تعالى: }قل هو الله أحد{ ومن الأحاديث ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تعارَّ([6]) من الليل قال: "لا إله إلا الله الواحد القهار ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما العزيزُ الغفار".
الصفةُ الخامسةُ: القيامُ بنفسه تعالى
أي الاستغناءُ عن كلّ شىءٍ، فالله تبارك وتعالى مستغنٍ عن كل شىءٍ ومحتاجٌ إليه كلُّ شىءٍ سِواهُ، فلا يحتاجُ إلى مخصّصٍ له بالوجودِ لأنَّ الاحتياجَ إلى الغيرِ ينافي قِدَمَهُ، إذْ الاحتياج للغيرِ علامةُ الحدوثِ والله تباركَ وتعالى منزهٌ عن ذلك، وقد ثبتَ وجوبُ قِدَمِهِ وبقائهِ.
فالله تبارك وتعالى لا ينتفعُ بطاعةِ الطَّائعينَ ولا ينضرُّ بعصيانِ العصاةِ، وكلُّ شىءٍ سوى الله محتاجٌ إلى الله لا يستغني عن الله طرفةَ عينٍ، قال تعالى: }والله الغنيُّ وأنتم الفقراء{ [سورة محمد].
الصفةُ السادسةُ: مخالفتهُ للحوادِثِ
أي لا يُشبه المخلوقاتِ، والدليلُ العقليُّ على ذلك أنه لو كان يشبِهُ شيئًا من خلقِهِ لجازَ عليه ما يجوزُ على الخلقِ من التغيُّر والتطورِ والفناءِ، ولو جازَ عليهِ ذلك لاحتاج إلى من يُغَيّرُهُ والمحتاجُ إلى غيره لا يكونُ إلها فثبت أنه لا يشبِهُ شيئًا.
وأما البرهانُ النقليُّ لوجوبِ مخالفتِهِ للحوادِثِ فمن ذلك قوله تعالى }ليس كمثله شىء{ وهو أوضحُ دليلٍ نقليٍّ في ذلك جاء في القرءانِ لأنَّ هذه الآية تُفهم التّنزيه الكُلّي لأنَّ الله تباركَ وتعالى ذَكَرَ فيها لفظَ شىءٍ في سياقِ النَّفيِ، والنَّكرَةُ إذا أُورِدَت في سياقِ النفي فهي للشمولِ، فالله تباركَ وتعالى نفى بهذِه الجملةِ عن نفسِهِ مشابهة الأجرامِ والأجسامِ والأعراضِ فهو تباركَ وتعالى كما لا يشبه ذوي الأرواحِ من إنسٍ وجنٍ وملائكةٍ وغيرهِم لا يشبهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلوية والسُّفليةِ لا يُشبِهُ شيئًا من ذلك، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفي الشَّبَهِ عنه بنوعٍ من أنواعِ الحوادثِ بل شمل نفي مشابهتِهِ لكلّ أفرادِ الحادثاتِ. ويشملُ هذا النفيُ تنزيهَهُ تعالى عن الكميةِ والكيفية، فالكميةُ هي مِقدارُ الجرم أي فهو تبارك وتعالى ليس كالجِرمِ الذي يدخُله المقدارُ والمِساحَةُ والحدُّ فهو ليس بمحدودٍ ذا مِقدارٍ ومَسَافَةٍ، ومن قال في الله تعالى إنَّ له حدًّا فقد شَبَّههُ بخلقِهِ لأنَّ ذلك يُنافي الألوهيةَ، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ لاحتاج إلى من جَعَلَهُ على ذلك الحدّ والمقدارِ كما تحتاجُ الأجرامُ إلى من جَعَلَها بحدودها ومقاديرها لأن الشىءَ لا يخلقُ نفسَه بمقدارِهِ، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ كالأجرامِ لاحتاجَ إلى من جَعَلَهُ بذلكَ الحدّ لأنه لا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو جَعَلَ نفسَه بذلك الحدّ، والمحتاجُ إلى غيرِهِ لا يكونُ إلها لأنَّ من شرطِ الألوهيةِ الاستغناء عن كل شىء.
الصفةُ السابعةُ: الحياةُ
الحياةُ في حقّ الله تعالى صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ ليست كحياةِ غيرِهِ بروحٍ ولحمٍ ودمٍ.
والبرهانُ العقلي على كونِهِ تعالى حيًّا أنه لو لم يكن حيًّا لم يتصف بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ، ولو كان الله تعالى غير متصفٍ بهذه الصفاتِ لكانَ متصفًا بالضّدِ وذلك نقصٌ والله منزهٌ عن النقصِ.
ومما يدلُّ على وجوبِ حياتهِ تعالى وجودُ هذا العالم، فلو لم يكن حيًّا لم يُوجد شىءٌ من العالمِ، لكنّ وجودَ العالمِ ثابتٌ بالحِسّ والضرورةِ بلا شك.
والبرهانُ النقليُّ على الحياةِ ءاياتٌ عديدةٌ منها قولُ الله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحيُّ).
الصفة الثامنةُ: القُدرةُ
وهي صفةٌ أزليّةٌ ثابتةٌ لذاتِ الله تعالى ويصحُّ أن يقال قائمةٌ بذاتِ الله تعالى لأن المعنى واحدٌ لكن لا يقالُ ثابتةٌ في ذاتِ الله، والقدرة يتأتى بها الإيجاد والإعدامُ أي يوجدُ بها المعدومَ من العدمِ ويُعدمُ بها الموجود.
والبرهانُ العقليُّ على وجوبها لله تعالى هو أنه لو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا ولو كان عاجزًا لم يُوجد شىءٌ من المخلوقاتِ، والمخلوقاتُ موجودةٌ بالمشاهدةِ. ثم العجزُ نقصٌ، والنقصُ مستحيلٌ على الله لأن من شرطِ الإلهِ الكمالُ.
وأما البرهانُ النقليُّ فقد وَرَدَ ذكرُ صفةِ القدرةِ لله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضعَ كقولِهِ تعالى: }إنَّ الله هو الرَّزَّاقُ ذُو القوةِ المتين{ القوةُ هي القدرةُ، وقولِه تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شىءٍ قديرٌ{.
ثم إن القدرةَ لا تتعلقُ إلا بما يُجَوّزُ العقلُ وجودَهُ وهو الممكناتُ العقليةُ ويقال بعبارةٍ أخرى الجائزاتُ العقليةُ، فلا تتعلقُ القدرةُ بالواجِبِ العقليّ ولا بالمستحيلِ العقليّ أي ما لا يقبلُ الوجودَ، لذلك يمتنعُ أن يقال هل الله قادرٌ على أن يخلقَ مثلَهُ أو على أن يُعدمَ نفسَهُ، ومعَ ذلك لا يقالُ إنه عاجزٌ عن ذلك.
الصفةُ التاسعةُ: الإرادةُ
الإرادةُ صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ لذاتِهِ يخصصُ بها الممكن العقليَّ بصفةٍ دونَ صفة، لأنَّ الممكناتِ العقليةَ كانت معدومةً ثم دخلت في الوجودِ بتخصيصِ الله تعالى لوجودِها إذ كانَ في العقلِ جائزًا ألا توجدَ فوجودها بتخصيصِ الله تعالى، فلولا تخصيصُ الله تعالى لَما وجِدَ من الممكناتِ العقليةِ شىءٌ.
فيعلم من ذلكَ أن الله تعالى خصص كل شىءٍ دخلَ في الوجودِ بوجودِهِ بدل أن يبقى في العدمِ وبالصفةِ التي هو عليها دونَ غيرِها، فتخصصُ الإنسانِ بصورتِهِ وشكلِهِ الذي هو قائمٌ حاصلٌ بتخصيصِ الله تعالى لأنه كان في العقلِ جائزًا أن يكونَ الإنسانُ على غير هذه الصفةِ وعلى غيرِ هذا الشكلِ، ثم تخصصُ الإنسانِ بوجودِهِ في الوقتِ الذي وجِدَ فيهِ فهو من الله تعالى لأنه لو شاء لجعلَ الإنسانَ أولَ العالم لكنهُ لم يجعله أول العالم بل جعلَهُ ءاخر العالم، فالفردُ الواحدُ منَّا يعلمُ أنه ما أوجَدَ نفسَهُ على هذا الشكلِ ولا هو أوجدَ نفسَهُ في هذا الزمنِ الذي وُجِدَ فيهِ فوجبَ أن يكونَ ذلك بتخصيص مخصصٍ وهو الموجودُ الأزليُّ المسمى الله.
وأما البرهانُ النقليُّ على وجوبِ الإرادةِ لله فكثيرٌ من ذلك قولُه تعالى: }فَعَّالٌ لما يُرِيدُ{ أي أنه تبارك وتعالى يُوجدُ ويفعلُ المكوناتِ بإرادتهِ الأزليةِ.
الصفة العاشرةُ: العلمُ
العلم صفةٌ أزليةٌ ثابتةٌ لله تعالى ولا يقالُ في الله تعالى لأن التعبير بفي يوهمُ الظرفيةَ، أي أنَّ ذاتَ الله تعالى ظرفٌ لعلمِهِ وهذا مستحيلٌ. فالله تعالى ليس جوهرًا يحلُّ به العرَضُ، نحنُ عملنا عرضٌ يحلُّ بأجسامنا ويستحيلُ ذلك على الله تعالى فلا يجوزُ لأحدٍ أن يعبر بهذِهِ العبارة فإن ذلكَ زللٌ يؤدي إلى الهلاكِ. وهذا الفنُّ أولى العلومِ بالاحتياطِ في العباراتِ لأنه أشرفُ العلومِ لأنه يتعلقُ بأصلِ الدينِ، ولذلكَ سماهُ أبو حنيفةَ "الفقه الأكبرَ" وهو يعرفُ بعلمِ التوحيدِ وعلم الكلامِ، وهذا الذي يسميهِ أهلُ السنةِ علم الكلامِ هو الكلام الممدوحُ، وأما الكلامُ المذمومُ فهو كلامُ أهلِ الأهواءِ أي أهلِ البدع الاعتقاديةِ كالمعتزلة فهو الذي ذمَّه السلفُ، قال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: "لأنْ يلقى الله العبدُ بكلِ ذنبٍ ما عدا الشركَ أهونُ من أن يلقاه بكلامِ أهل الأهواءِ". فالفرقُ بينَ هذا وهذا أن علمَ الكلامِ الذي هو لأهلِ السنةِ الذي فيهِ ألَّفوا تآليفهم أنه تقريرُ عقيدةِ السلفِ بالبراهينِ النقليةِ والعقليةِ مقرونًا بردّ شُبهِ الملاحدةِ المبتدعةِ وتشكيكاتِهم. ولأهل الحقِ عناية عظيمة به فقد كان أبو حنيفة يسافر من بغداد الى البصرةِ لإبطالِ شبهِهم وتمويهاتهم فقد تردد لذلك أكثَر من عشرينَ مرةً. وبينَ بغدادَ والبصرة مسافةٌ طويلةٌ، فكانَ يقطعهم بالمناظرة بكشف فسادِ شبههم وتمويهاتِهم، وهذا لا يعيبه إلا جاهلٌ بالحقيقةِ من المشبهةِ ونحوهم فإن المشبهةَ التي تحملُ الآياتِ المتشابهة والأحاديثَ المتشابهة الواردةَ في الصفاتِ على ظواهرها أعداءُ هذا العلمِ، وفي هؤلاءِ قال القائلُ وقد صدقَ فيما قالَ:
عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم وما عليه إذا عابُوهُ من ضَرَرِ
ما ضرَّ شمسَ الضُّحى في الأفقِ طالعةً أن ليسَ يبصرها من ليسَ ذا بصَرِ
أما ما يُروى أنَّ الشافعيَّ قال: "لأن يلقى الله العبدُ بكلّ ذنبٍ ما عدا الشركِ خيرٌ له من أن يلقاهُ بعلمِ الكلام" فلم يثبت عنه.
قالَ أهلُ الحقّ في إثباتِ صفةِ العلمِ لله تعالى استدلالا أنَّه تعالى لو لم يكن عالمًا لكانَ جاهلًا والجهلُ نقصٌ والله منزهٌ عنِ النقصِ، وأيضًا لو كانَ جاهلًا بشىءٍ لَم يوجد هذا العالمُ فوجودُ هذا العالمِ مشاهَدٌ ثابتٌ للعيانِ، فالجهلُ في حقّ الله تعالى يؤدي إلى عدمِ وجودِ العالمِ وذلك محالٌ، وما أدى إلى المحالِ محالٌ.
وأما من حيثُ النقلُ فالدلائل كثيرة كقولِهِ تعالى: }وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَليم{، وقولِهِ: }ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيفُ الخبير{ ففي الآيةِ دلالَةٌ على أنه لو لم يكن عالمًا لما خلق هذا الخلقَ.
الصفةُ الحاديةَ عشرةَ: السمعُ
وهو صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ له تتعلقُ بالمسموعاتِ، وقال بعضُ المتأخرينَ: تتعلقُ بكلِ موجودٍ من الأصواتِ وغيرها، ولا يجوزُ أن يكونَ سمعُهُ تعالى حادثًا كسمع خلقِهِ، ولا يجوزُ أن يكونَ بآلةٍ كسمعنا فهو يسمعُ بلا أُذُنٍ ولا صِماخٍ، وقد زاغ بعضُ من لم يتعلَّم علمَ التنزيهِ ممن اقتصر على حفظِ القرءانِ من دونِ تلقٍّ لِعلم الدينِ تفهُّمًا من أفواهِ أهلِ العلمِ الذين تلقوا ممن قبلَهُم فقالَ: إنَّ الله له ءاذانٌ، فقيلَ له: كيفَ ذلكَ؟ قال: أليسَ قال الرسول "لله أشدُ ءاذانًا" فقيل له: أنت حرَّفتَ الحديثَ فالواردُ "أَذَنًا" وليس ءاذانًا، هو ظنَّ بنفسِه أنهُ عالمٌ فتجرأ على تحريفِ هذا الحديثِ ظنًّا منه أنه الصوابُ، والأَذَنُ في اللغةِ الاستماعُ، وقول هذا الرجل من أفحشِ الكذبِ على الله لم يقل بذلكَ أحدٌ من المشبهةِ. فسمعُ الله تعالى أزليٌّ ومسموعاتُهُ التي هي من قبيلِ الصوتِ حادثةٌ فهو تعالى يسمعُ هذه الأصواتَ الحادثةَ بسمعِهِ الأزليّ الأبديّ أي الذي ليس لوجودِهِ ابتداءٌ ولا انتهاءٌ بل هوَ باقٍ دائمٌ كسائرِ الصفاتِ، وهذا كما قالوا إن قدرة الله متعلقةٌ بالحادثاتِ أي الممكناتِ العقليةِ والقدرةُ أزليةٌ بخلافِ المقدوراتِ فإنها حادثةٌ، ويقال على مذهبِ الماتريديةِ إنه مكوّنُ الخلقِ بتكوينِهِ الأزليّ ومكوناتُهُ حادثةٌ.
ودليلُ وجوبِ السمعِ له عقلًا أنه لو لم يكن متصفًا بالسمعِ لكان متصفًا بالصممِ وهو نقصٌ على الله، والنقصُ عليه محالٌ.
وأما دلائلُهُ النقليةُ فكثيرةٌ منها قولُه تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{، وقولُه تعالى: }قد سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجادلُكَ فِي زوجِها{.
الصفةُ الثانيةَ عشرةَ: البصرُ
معناهُ الرؤيةُ، والبصرُ صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ متعلقٌ بالمبصراتِ فهو تباركَ وتعالى يرى ذاته الأزليَّ ويرى الحادثاتِ برؤيتِهِ الأزليةِ، وليسَ بصرهُ كبصرِ خلقِهِ لأن بصرَ خلقه بآلة يكون بالعين.
والدليل على ثبوتِ البصر لهُ من حيث العقلُ أنه تبارك وتعالى لو انتفى عنهُ البصرُ لاتصفَ بضدِهِ وهو العَمَى أي عدمُ الرؤية وذلك نقصٌ والنقصُ محالٌ على الله.
وأما برهانُ البصرِ النقليُّ فالآياتُ والأخبارُ الصحيحةُ الكثيرةُ كقولِ الله تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ
البصير{، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في تَعدادِ أسماءِ الله الحسنى: "السميعُ البصيرُ" وهو في حديثٍ أخرجهُ الترمذيُّ وحسَّنهُ.
الصفةُ الثالثةَ عشرةَ: الكلامُ
يجبُ لله تعالى الكلامُ وهو صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ لا يشبهُ كلامَ المخلوقينَ ويُعبرُ عنهُ بالقرءانِ وغيرِهِ من الكتبِ المنزلةِ، وكلامُ المخلوقينَ حادثٌ، فكلامُ الإنسانِ صوتٌ يعتمدُ على مخارجَ ومقاطعَ ومنهُ ما يحصلُ بتصادمِ جسمينِ كصوتِ الحديدِ إذا جُرَّ على الصفا([7]). وليست هذه الكتبُ المنزلةُ عينَ الكلامِ الذاتي بل هي عباراتٌ عنهُ، والدليلُ على ذلكَ من حيثُ العقلُ أنه لو لم يكن متكلمًا لكانَ أبكم، والبَكمُ نقصٌ والنقصُ مستحيلٌ على الله.
وأما دليلُه النقليُّ النصوصُ القرءانيةُ والحديثيةُ من ذلكَ قولُه تعالى: }وَكَلَّمَ الله موسى تكليمًا{ أي أسمعَهُ كلامَهُ الأزليَّ الأبديَّ ففهمَ منه موسى ما فهمَ، فتكليمُ الله تعالى أزليٌّ وموسى وسماعهُ لكلامِ الله حادثٌ. فالقرءانُ يرادُ به الكلامُ الذي هو معنى، أي صفةٌ قائمة بذاتِ الله، ويطلق على اللفظِ المنزلِ على سيدنا محمدٍ، قال الله تعالى: }نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين{، وليسَ الكلام الذي هو معنى قائم بالله المسمى الكلامَ النفسيَّ لكونِهِ قائمًا بذات الله أي بنفسِهِ أي ذاتِهِ. فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ هو الذي يكتبُ بأشكالِ الحروفِ ويسمَعُ بالآذانِ ويحفظُ في الأذهانِ بالألفاظِ المتخيَّلةِ ويقرأ باللفظِ، أما الكلامُ الذاتيُّ فلا يحلُّ في المصاحف لكنه يُطلقُ على كلا الأمرينِ أنه كلام الله فهو باعتبارِ إطلاقِهِ على الكلامِ النفسيِ حقيقةٌ عقليةٌ شرعيةٌ، أما باعتبارِ إطلاقِهِ على اللفظِ المنزل فهو حقيقةٌ شرعيةٌ لأن اللفظَ المنزلَ ليسَ عينَ الكلامِ الذاتيِ الأزلي الأبديِ، وتقريبُ ذلكَ للفهمِ أنه يصحُّ أن يقالَ تلفظتُ الله أي تلفظتُ بلفظٍ يدُلُّ على ذاتِ الله المقدسِ، ويقال كتبتُ الله أي أشكالَ الحروفِ الدالةِ على الذاتِ القديمِ، ويقال للفظِ الجلالةِ المكتوبِ على لوحٍ ونحوِهِ هذا الله، ويقالُ قرأ فلانٌ قراءة حسنةً صحيحةً ويقالُ قرأ فلانٌ قراءةً غيرَ صحيحةٍ، فلا يصحُّ أن يكونَ قولُ القائلِ تلفظتُ الله وكتبتُ الله أن يكونَ على الحقيقةِ العقليةِ لأن الله تعالى لا يَحلُّ بألسِنتنا وكذلكَ كلامهُ الذي هو ذاتيٌّ لا يَحُلُّ بألسنتنا، إنما العبارةُ هي التي تحلُّ بألسنتنا، فإن قيلَ إذا لم يكن اللفظُ المنزلُ عينَ كلامِ الله الذاتيّ فكيفَ كانَ نُزُولُهُ على سيدِنا محمدٍ؟
فالجوابُ: ما قالَهُ بعضُ العلماء إن جبريل وجَدهُ مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ فأنزلَهُ بأمرِ الله له على سيدنا محمدٍ قراءةً عليهِ لا مكتوبًا في صحفٍ ويدلُ لذلكَ قولُهُ تعالى: }إنه لقولُ رسول كريم{ أي مقروء جبريل، فلو كان هذا اللفظُ المنزلُ عين كلامِ الله الذاتي لم يقل الله تعالى: }إنه لقولُ رسول كريم{ أي جبريل لأن جبريل هو المراد بالرسولِ الكريمِ. أما المشبهةُ فتقولُ الله يتكلم بالحروفِ كما نحن نتكلم بالباء ثم السين ثم ما يلي ذلك من الحروف في بسم الله الرحمن الرحيم وغيرِ ذلك من ألفاظِ القرءانِ، وفيما قالوه تشبيهٌ لله بخلقِهِ لأنه لو كان يتكلمُ بحروفٍ تخرُجُ من ذاتِ الله تعالى كما تخرُج من ألسنتنا لكانَ مثلَنا ولا يجوزُ أن يكونَ مثلَنا لأنه نفى عن نفسِهِ مشابهةَ غيره لَهُ بقولِه: }ليس كمثله شىء{، فرضي الله عن أئمةِ أهلِ السنةِ حيثُ بيَّنوا الصوابَ من الاعتقادِ الذي لولا بيانُهُم لخفيَ على كثيرٍ من الخلقِ وَلَوَقَعُوا في تجسيم الله تعالى.
واستدلالنا بقولِ الله تعالى: }إنه لقولُ رسولٍ كريم ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين{ من أوضح الدلائل على صحةِ ما يقولُهُ أهلُ السنةِ المنزهونَ لخالقهم عن شبهِ المخلوقينَ، وإلى هذا ذهبَ الفريقانِ من أهلِ السنةِ الماتريدية والأشعريةُ، فقولُ من قال من أهلِ السنةِ القرءان كلامُ الله تعالى بالحقيقةِ ينزل على التبصيرِ الذي قرَّبوه.
ثم الواجبُ معرفتهُ وجوبًا عينيًّا على كلّ مكلفٍ من صفاتِ الله هي هذه الثلاثَ عشرةَ، وأما التكوينُ وهو التخليقُ للمخلوقاتِ والمقدوراتِ ففهِمَهُ بعضُ أهلِ السنةِ على أنه صفةٌ لله أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى فعندهُم تكوينُ الله أزليٌّ والمكوناتُ حادثةٌ مخلوقةٌ. والفريقُ الآخرُ أكثرُ الاشاعرةِ لا يرونَ التكوينَ صفةً لله تعالى أزليةً، إنما يرونَ التكوينَ أثرَ القدرةِ الأزليةِ فعندَهُم لا حاجةَ إلى عدّ التكوينِ صفةً أزليةً، فعلى حسبِ مذهبِ الماتريديةِ تكونُ الصفاتُ الواجبُ معرفتُها على كلّ مكلفٍ أربعَ عشرةَ صفةً، وبعضُ الماتريديةِ وهو صاحب كتاب بدء الأمالي قال في تقريرِ مذهبِهِم في صفاتِ الذاتِ:
صفاتُ الذاتِ والأفعالِ طُرًّا([8]) قديماتٌ مصوناتُ الزوالِ
الماتريديةُ عندَهُم هكذا يقررونَ أن صفات الذاتِ وهي ثلاثَ عشرةَ، وصفاتُ الأفعالِ أي التخليق الذي هو التكوين والإسعادُ والإشقاءُ والإماتَةُ والإحياءُ قديماتٌ أي أزلياتٌ، وقوله: "مصونات الزوالِ" معناه لا تَنعدمُ ليست شيئًا يوجدُ ثم ينقطعُ.
وأما بعضُ الحنابلةِ قالوا كلامُ الله بصوتٍ لكنَّ متقدميهِم يعنونَ بذلكَ صوتًا أزليًّا أبديًّا ليس كأصواتِ المخلوقينَ فإن الذي يعتقدُ أن كلامَ الله صوتٌ حادثٌ فهو شَبَّهَهُ بخلقهِ وخالف قولَ الله تعالى: }ليس كمثله شىء{.
ثم إن الناسَ افترقوا في مسألةِ الصفاتِ فِرقًا، فرقة أثبتتِ الصفاتِ معَ التنزيهِ عن مشابهةِ الخلقِ وهم أهلُ السنةِ والجماعةِ، أثبتوا لله ما أثبتَ لنفسِهِ مع تنزيهِهِ تعالى عن أن تكونَ صفاتُهُ من لوازِمِ الجسميةِ كالجلوسِ والانتقالِ والتحيزِ في جهةٍ من الجهاتِ والتغيرِ والتطورِ وسائرِ أماراتِ الحدوثِ، وفرقة عطلتِ الصفاتِ وهم المعتزلةُ وهمُ القدريةُ أنكروا أن الله متصفٌ بصفاتٍ تقومُ بالذاتِ فسمُّوا لذلكَ معطلةً لأنهم عطلوا الصفات أي نفوها، وفرقة جعلوا صفاتِ الله من لوازمِ الجسميةِ أثبتوا للذاتِ المقدسِ الحركةَ والسكونَ والتنقلَ وغيرَ ذلك من أماراتِ الحدوثِ كقولِهِم إن كلامَ الله أصواتٌ وحروفٌ توجدُ ثم تنقضي ثم تعودُ ثم تنقضِي ثم تعودُ ثم تنقضِي وهؤلاءِ يسمَّونَ مشبهةً ومجسمةً، ومن هؤلاءِ قسمٌ يصرحونَ بتسميةِ الله جسمًا ثم يقولونَ نحن لا نعني بقولنا إنه جسمٌ أَنه جِرمٌ إنما نعني أنه موجودٌ قائمٌ، وقسمٌ يتحاشونَ أن يطلقوا عليه لفظَ الجسمِ مع اعتقادِ معناه، ومن هؤلاء الكراميَّةُ وهم مشبهةٌ مجسمةٌ ينتسبونَ إلى رجلٍ يقال له محمد بن كرام ويقالُ لهؤلاءِ حشويةٌ، وأهلُ السنةِ الوسطُ بين ذينِكَ الفريقينِ وهم لقّبوا الأشعريةَ والماتريديةَ لأنهم اتَّبَعُوا إمامي الهدى أبا الحسن الأشعري وأبا منصورٍ الماتريديَّ ويتميزُ هؤلاءِ عن المعطلةِ والمشبهةِ لكونِهِم يثبتونَ لله تعالى الصفاتِ التي مرَّ ذكرُها: العلمُ والقدرةُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ والحياةُ والمخالفةُ للحوادثِ والقيامُ بالنفسِ والوجودُ والوحدانيةُ والقدم والبقاء مع تنزيهِ الله تعالى عن صفاتِ الحدوثِ بقولِهِم في هذه الصفاتِ إنها أزليةٌ أبديةٌ، ولأنهم يؤولونَ ءاياتِ الصفاتِ وأحاديث الصفاتِ من المتشابِه بتركِ حملِها على الظواهِر، فمنهم من يؤولُ تأويلا إجماليًّا ومنهم مَن يؤولُ تأويلا تفصيليًّا ويَرونَ كلا الأمرينِ حقًّا وصوابًا. ومثالُ ذلكَ أنهم يحملونَ استواءَ الله على العرشِ المذكورَ في عدةِ ءاياتٍ على معنى يليقُ بهِ تعالى لا على معنَى الجلوسِ والاستقرارِ أو المحاذاةِ أو نحوِ ذلكَ من معاني الاستواءِ في اللغةِ العربيةِ مما هو من استواء المخلوقِ، ثم منهم من يكتفِي بإمرارِها كما جاءت من غير تعيينِ معنى لائق بالله تعالى كالاستيلاءِ والقهرِ، ومنهم من يعينُ معنى لا يلزمُ منهُ علاماتُ الحدوثِ ولوازمُ الجسميةِ فالفريقُ الأولُ منهُم أَوَّلوا تأويلا إجماليًّا والفريقُ الآخرُ أَوَّلوا تأويلا تفصيليًّا.
وزاغَ أهلُ التشبيهِ عن الحقّ وقالوا إن التأويلَ تعطيلٌ وهو افتراءٌ على أهلِ السنّةِ، وهؤلاءِ يذمون أهلَ الحقّ لتركهم حملَ تلكَ الآياتِ والأحاديثِ المتشابهةِ كآيةِ الاستواءِ المذكورةِ على ظواهرِها، فيقول أحدهم للسني الذي لا يحمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها هذا مؤوّل على وجهِ التعيير وهم معَ ذلك يؤولونَ بعضَ هذه الآياتِ والأحاديثِ، فهم في الحقيقةِ مناقضونَ لأنفسِهِم وإن لم يشعرُوا بذلكَ لأنهم لا يحملونَ الآياتِ التي ظواهرها أن الله في الجهةِ المقابلةِ لجهةِ العلوّ كالأرضِ فإذا جاءوا إلى هذِه الآياتِ كقولِهِ تعالى في حقّ ابراهيمَ: }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ لا يحملونَ هذه الآيةَ على أن الله تعالى أرادَ بذلكَ أنه كانَ في أرضِ الشامِ التي هاجرَ إليها إبراهيمُ، كذلك إذا جاءوا إلى قولِهِ تعالى: }وهو معكم أين ما كنتم{ لا يحملونَ هذهِ الآيةَ على ظاهرها لأنَّ ظاهرها أن الله مخَالطٌ عبادَهُ في أماكِنهم في الأرضِ أينما كانوا وأنه متنقلٌ معهم. ثمَّ إذا قيلَ لَهُم كيفَ تحملونَ بعضَ هذِهِ الآياتِ على ظواهرِها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ ولا تحملونَ الآياتِ الأخرى كآيةِ }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ وءاية }ونحن أقرب إليه من حبل الوريد{ وما أشبهَ ذلك لا تحملونَها على الظواهرِ أليس هذا تَحَكُّمًا، قالوا الآياتُ التي ظواهرُها أن الله تعالى في جهةِ العلوّ كالعرشِ والسماءِ إذا حملناها على ظواهرِها أثبتنا لله الكمالَ وأما الآياتُ التي ظواهرُها أنه تعالى في جهةِ تحت لا نحملُها على ظواهرها لأن جهةَ تحتٍ خلافُ الكمالِ وهي نقيصةٌ في حقّ الله تعالى.
وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون: }وإنا فوقهم قاهرون{ أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.
والحاصلُ أن هذه الطائفةَ كأنها لا تدري ما تقولُ، أما أهلُ الحقّ الذين لا يحملونَ تلك الآياتِ على الظواهرِ ما أوهمَ منها تحيزَ الله في جهةِ العلوّ وما أوهَمَ منها تحيزَهُ في جهةِ تحت فهم جانبوا التحكمَ أي الدعوى بلا دليلٍ، وأما الفئة التي تحملُ بعضَ تلك الآياتِ والأحاديثِ على ظواهرِها وتترك حملَ بعضٍ على ظاهرها فقد تحكمت ولزمَها التشبيهُ فهم مشبهةٌ في الحقيقةِ وإن كانوا لا يرضونَ هذا الاسمَ لهُم. ومن عادتِهِم أنهم يموهونَ على الناسِ بقولِهِم استوى على العرشِ بلا كيف أو بقولِهم على ما يليق بهِ وهم يعتقدونَ في الله الكيفَ الذي نفاه السلَف فليحذرِ العَاقل تمويهَهُم، تعالى الله عما يقولون.
صِفَاتُ الله كُلُّها كَمَالٌ
صفَاتُ الله أزَلِيَةٌ أَبدِيَةٌ، لأَنَّ الذَّاتَ أزَليٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُنْ في الأَزَلِ، أمَّا صِفَاتُ الخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إلى أكْمَلَ فَلا يتجدَّدُ عَلى عِلْمِ الله تَعَالَى شَىءٌ. والله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِه الأَزَليّ وقُدْرَتِه الأَزَلِيَّةِ ومَشِيْئَتِه الأَزَلِيَّةِ، فَالمَاضِي والحَاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ بِالنّسْبَةِ لله أَحَاطَ بِه بِعِلْمِهِ الأَزَلِيّ. ولما ثَبَتَت الأزليَّةُ لذاتِ الله وَجَبَ أن تكون صفاتُهُ كلُّها أزليَّةً أبديَّةً لا تَقبَلُ التَّغيُّرُ والتَّطوُّرُ لأن التّغيُّرَ والتَّطوُّرَ من حالٍ إلى حالٍ علامةُ الحدوثِ، فالإنسان يقبل الزّيادةَ والنُّقصانَ والتغيُّرَ من الكمالِ إلى النَّقصِ والعكس أما الله تعالى لا يزدَادُ ولا ينقصُ، فصفاتُ الله لا تقبلُ التّطوُّرَ من كمالٍ إلى أكملَ وعلمُ الله لا يزدادُ ولا ينقصُ بل علمُهُ كاملٌ كما سائر صفاته يعلمُ به كلَّ شَىءٍ، فلا يتجدّدُ له علمٌ جديدٌ بل هو عالمٌ في الأزلِ بكلّ شىءٍ فالتّغيُّرُ يحصُلُ في المعلومِ الحادِثِ لا في علمِ الله الأزليّ، فالله يعلمُ ما كانَ في الماضي وما يكون في الوقتِ الحاضرِ وما سيكون في المستقبلِ حتى الأشياء التي تتجدَّدُ في الآخرةِ الله عَلِمَ بها في الأزل، حتى أنفاسَ أهل الجنةِ وأهل النار التي تتجدَّدُ بلا انقطاعٍ الله تعالى يعلمُ بتفصيلها.
أما قولُه تعالى: }ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه{ [سورة الأعراف] معناهُ أن الله تعالى له الأسماءُ التي تدلُّ على الكمالِ، فالله لا يُوصَفُ إلا بصفةِ كمالٍ فما كانَ من الأسماءِ لا يدلُّ على الكمالِ لا يجوزُ أن يكونَ اسمهُ كما يُسمّيه بعضُ النّاس "روحًا"، وبعضُهم سمّاهُ "ءاه"، فهذا لا يجوزُ لأن كلمةٌ ءاه وَضَعَهَا العربُ لِتَدُلَّ على الشّكايةِ والتّوجُّعِ وقد جاءَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي أن رسول الله قال: "إذا تثاءبَ أحدُكم فَليَضَع يدهُ على فِيْهِ، وإذا قالَ ءاه ءاه فإنَّ الشّيطانَ يضحَكُ من جوفِهِ" أي يدخل إلى فمِهِ ويسخرُ منه.
ومن الدّليلِ على أن ءاه ليس من أسماءِ الله أن الفقهاءَ قالوا إن من قالَ ءاه في الصّلاةِ عامدًا بطلَتْ صلاتُهُ، ومعلومٌ أن ذِكرَ الله لا يبطلُ الصلاةَ، فلو كانَ ءاه من أسماءِ الله لما أبطَلَ الصلاةَ.
وأسماءُ الله الحسنى يُطلَقُ عليها صفات الله ويُطلقُ عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالةِ لا يطلقُ عليه الصّفة، ثم إن أسماء الله تعالى قسمانِ قسم لا يُسمَّى به غيرُهُ وقسمٌ يُسمَّى به غيرُه، الله والرَّحمنُ والقدُّوسُ والخالقُ والرَّزَّاقُ ومالكُ الملكِ وذو الجلالِ والإكرامِ والمحيي المميت لا يُسمَّى به إلا الله، أما أكثرُ الأسماءِ فيُسمَّى به غيرُ الله أيضًا، فيجوزُ أن يسمّيَ الشَّخصُ ابنَهُ رحيمًا والمَلِك كذلك والسَّلام كذلك.
تم إملاءٍ في غرة رجب لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة في مدينة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه.
0 commentaires:
إرسال تعليق