هدي النبي (صلى الله عليه و سلم) في الصيام
للكاتب : محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-.
لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعه من المساكين، وتضييق مجاري الطعام والشراب فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين، وهو لرب العالمين، من بين الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته، فهو ترك المحبوبات لمحبة الله، وهو سر بين العبد وربه، إذ العباد قد يطلعون على ترك المفطريات الظاهرة، أما كونه ترك ذلك لأجل معبوده، فأمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم.
وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة، المانعة لها من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 183].
وأمر -صلى الله عليه وسلم- من اشتدت شهوته للنكاح، ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة.
وكان هديه -صلى الله عليه وسلم- فيه أكمل هدي، وأعظم تحصيلاً للمقصود، وأسهله على النفوس، ولما كان فطم النفوس عن شهواتها ومألوفتها من أشق الأمور، تأخر فرضه إلى ما بعد الهجرة، وفرض أولاً على التخيير بينه وبين أن يطعم كل يوم مسكيناً، ثم ختم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير، والمرأة إذا لم يطيقا، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا، أو يقضيا، والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، وإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء، إطعام مسكين لكل يوم، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض، وإنما كان مع الصحة، فجبر مع إطعام مسكين، كفطر الصحيح في أول الإسلام.
وكان من هدية -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان، الإكثار من أنواع العبادة، وكان جبريل -عليه السلام- يدارسه القرآن في رمضان، وكان يكثر فيه من الصدقة والإحسان، والتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف.
وكان يخصه من العبادات بما لا يخص به غيره، وإنه ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليلة ونهارة على العبادة.
وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: "إنك تواصل؟"، فيقول: لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، نهى عنه رحمةً للأمة، وأذن فيه إلى السحر.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثون، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظرة سحاب أكمل شعبان ثلاثين، ولك يكن يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بإكمال عدة شعبان، ولا يناقض هذا قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له» [رواه البخاري ومسلم]، فإن القدر: هو الحساب المقدور، والمراد به الإكمال.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الخروج منه بشهادة اثنين، وإذا شهد شاهدان برؤيته، بعد خروج وقت العيد، افطر، وأمرهم بالفطر، وصلي العيد من الغد في وقتها.
وكان يعجل الفطر، ويحث عليه، ويتسحر ويحث عليه، ويؤخره، ويرغب في تأخيره، وكان يحض على الفطر على التمر، فإن لم يجده فعلى الماء.
ونهى الصائم عن الرفث، والصخب، والسباب، وجواب السباب، وأمره أن يقول لمن سابه: إني صائم.
وسافر في رمضان، فصام، وأفطر، وخير أصحابه بين الأمرين، وكان يأمره بالفطر إذا دنوا من العدو، ولم يكن من هديه تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ويخبرون أن ذلك هديه وسنته -صلى الله عليه وسلم.
وكان يدركه الفجر وهو جنب من اهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم، وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان، وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء، ولم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- التفريق بين الشاب والشيخ.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسياً، وإن الله هو الذي أطعمه وسقاه، والذي صحّ عنه أنه يفطر الصائم به: هو الأكل والشرب، والحجامة والقيء، والقرآن دل على الجماعة، ولم يصح عنه في الكحل شيء.
وصحّ عنه أنه يستاك وهو صائم، وذكر أحمد عنه أنه كان يصب على رأسه الماء وهو صائم وكان يستنشق ويتمضمض وهو صائم، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق، ولا يصحّ عنه أنه احتجم وهو صائم. قال أحمد: وروي عنه أنه قال في الأثمد: "ليتقه الصائم" ولا يصح، قال ابن المعين: حديث منكر.
وكان يصوم حتى يقال: لا يفطر، و يفطر حتى يقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهر أكثر مما كان يصوم في شعبان، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، وكان يتحرى صيام الأثنين والخميس. قال ابن عباس: كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر، ذكره النسائي.
وكان يحض على صيامها. وأما صيام عشر ذي الحجة، فقد اختلف فيه عنه، أما صيام ستة أيام من شوال، فصحّ عنه أنه قال: صيامها مع رمضان يعدل صيام الدهر، وأما يوم عاشوراء، فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام، ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه، فقال: «نحن أحق بموسى منكم» [رواه البخاري]، فصام وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض رمضان، فلما فرض رمضان قال: «من شاء صامه ومن شاء تركه» [رواه مسلم].
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- إفطار يوم عرفة بعرفة، ثبت عنه ذلك في (الصحيحين) وروي عنه أنه نهى عن صوم عرفة بعرفة (رواه أهل السنن)، وصحّ عنه أن "صيامه يكفر السنة الماضية والباقية" (ذكره مسلم).
ولم يكن من هديه صيام الدهر، بل قد قال: من صام الدهر لا صام ولا أفطر، وكان يدخل على أهله فيقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا، قال: "إني إذاً صائم"، وكان أحياناً ينوي صوم التطوع، ثم يفطر وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- فإنه قال لها ولحفصة: "اقضيا يوماً مكانه" وكان إذا نزل على قوم وهو صائم أتم صيامه، كما فعل لما دخل على أم سليم، لكن أم سليم عنده بمنزلة أهل بيته. وفي الصحيح عنه انه قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إني صائم» [رواه مسلم].
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
للإمام ابن قيم الجوزية.
تأليف الإمام: محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-.
0 commentaires:
إرسال تعليق