Video

ضع بريدك الالكتروني

مدعوم منFeedBurner

قران يتلى اناء الليل واطراف النهار

طريق التوبة في الهاتف النقال

الأربعاء، 10 أبريل 2013

فلسفة العمر للشيخ فريد الأنصاري رحمه الله


من أهم مصادر الجمال في الإسلام عقيدةُ اليوم الآخر، لكننا لن نذوق جماليتها إلا بعد معرفة ما "العمر"؟ هذا الامتداد الزماني الحاد المحدود، الذي يحد فترة حياة الإنسان، من الولادة إلى الممات.

العمر هبة إلهية كبرى.. إنه تجلٍّ من تجليات الحياة، بيد أن حقيقته نسبية ككل حقائق الحياة الدنيا. فليس فيه -إذا تفكرت- طويل وقصير، وإنما هو قصير كله. فمن حيث منطق الأشياء وطبائعها: كل ما ابتدأ لينتهي لا يكون إلا قصيرا. أليس كل الناس يموتون بعد سنوات من تاريخ ميلادهم؟! نعم، سنوات، وإن هي إلا سنوات، لا مئات السنين، ولا آلافها.

ثم إن المقارنة النسبية بين أعمار الخلائق المختلفة تبيّن لك نسبيّة الطول والقصر باعتبار آخر. فمن الخلائق التي تعيش مئات السنين أو آلاف، من غير البشر، كالأشجار، والجبال ونحوها، وكالشياطين -وقد قال إبليس اللعين: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾(الحجر: 36-38)- إلى الكائنات التي تعمر الشهر والأسبوع واليوم، كبعض الحشرات، من مثل النحل، والذباب، والفراش. فلو نظرت إلى ما يشعر به المعمَّر مئات السنين أو آلافَها وهو ينظر إلى عمر الإنسان لوجدته يتأسف على شدة قصره، ويأسى على الإنسان الذي لم يمد له في عمره إلا قليلا، وهو لا يدري أن عمره هو أيضا بالنسبة إلى من هو أطول عمرا قصير جدا.

قصر الأعمار

ولو نظرت أنت -باعتبارك الإنساني- إلى أعمار الحشرات التي تعيش شهرا أو أسبوعا أو يوما، لأشفقت عليها من شدة قِصَرِ ما تعيشه من لحظات. ومما أرويه عن علماء الأحياء، أن ضربا من الفراش يعيش دورته البيولوجية الكاملة، في مدة لا تتجاوز أربعا وعشرين ساعة. يكون بيضة، ثم يخرج منها، فيدبّ دودة، ثم يلتف حول نفسه في غشائه، ليطير بعد ذلك فراشة، ثم يبيض ما شاء الله له ليخلّف ذريته بأمان، ثم يموت. كل ذلك في أربع وعشرين ساعة! وعندما كنتُ أقرأ أن بعض الحشرات يعيش ثمانية أيام على الأكثر، كان يتبادر إلى ذهني أن تلك الحشرة إذا طال عمرها إلى اليوم الثامن، تنشد كما أنشد الشاعر العربي القديم:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ
ثَمَانِينَ حَوْلاً -لاَ أبَا لَكِ- يَسْأمِ!
واليوم الواحد بالنسبة إلى وجدان الحشرة كعشر سنوات كوامل، لا فرق. ولو نظرت إلى ما أخبر به الله عن الزمان الكوني في القرآن، لأدركت أن الأعمار كلها بالفعل قصيرة.

الزمان الكوني وتجلياته

والزمان الكوني صور وأقسام شتّى، يتجلى بعضها في بُعْدِه "المِعْرَاجِيّ"، وهو نوعان: الزمان الأمري والزمان الملائكي. فـ"الزمان الأمري" هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(السجدة:5)، و"الزمان الملائكي" هو المشار إليه في قوله سبحانه: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4). كما يتجلى في صورة "الزمان العِنْدِيّ" وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(الحج:47). وهو زمان "الملائكة العندية" المشار إليها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾(الأعراف:206){س}. ثم "الزمان الأخروي" وهو الزمان الخالد السرمدي الذي لا ينتهي أبدا.

وفي ذهنك، أنت أيها المعمَّر مائة عام أنك عشت عمرا مديدا. نعم تماما كما عُمِّرَت الحشرةُ ثمانيةَ أيام، أو أربعا وعشرين ساعة.

ولك أن تتفكر في نسبية الزمن عند تقلّب أحوال النفس الإنسانية، بين شتّى ضروب الانتظار مثلا.. عندما تنتظر حلول لحظة سعيدة لم يبق بينك وبينها إلا لحظات يسيرة من دقائق معدودات.. تَشعُر أنها تمر ببطء شديد، وتقلق من "طول" الانتظار؛ فكأنّ وقع الدقائق تلك في نفسك عدة أعوام. وعندما تحلّ اللحظة السعيدة، تشعر -رغم طول مدتها بالنسبة إلى لحظات الانتظار- أنها قصيرة جدا، فكأن وقتها يتصرم منك تصرما. الزمن نسبي.. وتلك هي حقيقة الأعمار.

الطول والعرض في الأعمار

والعمر -عند التفكر في الخلق الإلهي- هو حقيقة الإنسان. إذ ليس المرء إلا بداية ونهاية! ساعة ولادة فساعة وفاة. ولكن.. شتان شتان بين عمر وعمر! ليس ذلك باعتبار الطول والقصر؛ إذ الأعمار كلّها قصيرة كما أسلفنا، ولكن باعتبار العرض والضيق، إذ قد يكون العمر طويلا -حسب العد البشري النسبي- ولكن يكون ضيقا من غير سعة. كما قد يكون قصيرا بالاعتبار نفسه، ولكنه عريض جدا، حتى لكأنه لا يكاد ينتهي أبدا.

وبيان ذلك بالمثال التالي: هَبْ أن العمر عبارة عن طريق يقطعها الإنسان، لها امتداد طولي وآخر عرضي. والعادة أن الإنسان إنما ينتبه إلى الطول؛ لأن ذلك هو المتعلق بمفهوم الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، ولكنه قلّما ينتبه إلى العرض؛ لأن هذا إنما يتعلق بالأعمال والمنجزات خلال كل فترة من فترات الزمن.

فالإنسان في سيره خلال عمره نوعان: نوع يخطو دون أن ينتبه إلى عرض الوقت، فيلتهم من طوله ما هو مقدّر له، فلا يشعر ببركة العمر مهما طال، حسب العد البشري النسبي. ونوع ينتبه إلى العرض؛ ولذلك فهو إذ يخطو الخطوة الواحدة من عمره، لا ينتقل إلى الثانية حتى يخطو مثلها على عرض الطريق لا على طولها ليعيش باقي اللحظات التي هي من الخطوة الطولية الأولى نفسها التي خطاها.

وهكذا يبقى يخطو على عرض الطريق حتى يستوعب كل عرضها. وحينئذ فقط، ينتقل إلى أمام ليخطو خطوة أخرى على طولها، ثم يستأنف بعد ذلك خطوات العرض. فهو إذن يسير طولا وعرضا.

إن مفهوم العرض رمز إلى استغلال الوقت استغلالا كاملا. لأن الناس -في الغالب- يعيشون اللحظة الواحدة، بما لا يكفي لعمارتها من الأشغال والأعمال. وربما أمضوها بالفراغ، وذلك هو ما يسمى بقتل الوقت. والعرض هو استنفاد كل الحيز الزمني للحياة بالمنجزات الإيجابية، والأعمال الحية التي تملأ رصيد العبد بالحياة الحافلة بالخير. وتلك هي "بركة العمر" المرجوة في الأدعية المأثورة. وإني إذ أذكر هذا المعنى أذكر وصف الله للجنة بقوله سبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾(الحديد:21)، ذلك أن الجنة زمن خالد، فأنت تعيش اللحظة الواحدة مرات عديدة، لا تنقضي أبدا. كما أن نعمها الوفيرة لا تستنفد أبدا. فذلك هو العرض ذو المعاني الجميلة.

أما الطول فهو يوحي بالنهاية والزوال، ومن هنا لم تكن للأعمار قيمة من حيث طولها أو قصرها. وإنما البليد من الناس من يتشبث بالطول الدنيوي. قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة:94-96).
ذلك أن جشع الكفار وجهلهم بحقيقة الحياة، يجعلهم ينظرون للدنيا من خلال بُعْدٍ واحد، هو البعد الطولي. وهو بعد خداع، لأن الألف سنة فيه كاليوم لا فرق، ما دام الطول ينتهي إلى حد. والعدد في الوحدات الزمنية الدنيوية -كما رأيت- نسبي، ورب حشرة عاشت بضع لحظات، أو بضعة أيام، أزكى عمرا ممن عمر ألف سنة. ومتى كان الإنسان هو المقياس الحقيقي لوحدات الزمن؟!
العمر الطولي والعرضي

ومن هنا ذمّ الله الحياة الدنيا، من حيث هي طول يُتلهف فيه على المتع الزائلة، والمكاسب الفانية: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(الحديد:20)، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَا لي وللدُّنْيا..؟ ما أنا في الدنيا إلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تحت شَجَرَةٍ ثم رَاحَ وتَرَكَها!"(رواه الإمام أحمد والترمذي).

والأحاديث في ذم الدنيا والركون إليها كثيرة جدا، تملأ أبوابَ الرِّقَاقِ من كتب الحديث النبوي الصحيح. وهي لا تخرج في معناها عن التنبيه إلى خطورة النظر القاصر إلى الزمن، والتكالب على استنفاد لحظات العمر في عَدِّ طولٍ لا يمنع من الموت شيئا.

والجميل في الأمر أن العرض لا ينقضي بوفاة الإنسان، بل يمتد حتى بعد وفاته؛ فلا تجده يشعر ذلك الشعور اليائس الذي يزلزل نفسية الكفار، إذ يشعرون عند ذكر الموت بهول "الفناء".

وقد رأينا كثيرا من علماء الأمة الإسلامية ممن لم يعمَّر من حيث الطول إلا ثلاثا وخمسين سنة، كالإمام الشافعي رحمه الله، ولكن ها أنت تراه -بعد وفاته بأكثر من ثلاثة عشر قرنا- يملأ الدنيا بالحياة. فهذا مذهبه الفقهي يملأ عرض الدنيا وطولها، وهذه كتبه العلمية تملأ كل أعمار الناس. فهل عاش الشافعي بضعا وخمسين سنة فقط؟! إنه نظر قاصر لمفهوم الزمن إذن.

وكذلك الشأن بالنسبة للإمام النووي رحمه الله، الذي لم تزل مصنّفاته هي مادة التربية الإيمانية لملايِين المسلمين، ككتاب "رياض الصالحين"، وكتاب "الأذكار"، و"الأربعين النووية"، و"شرح صحيح مسلم". فهذا الرجل العظيم قد عاش عمرا مباركا عريضا جدا، في خمس وأربعين سنة فقط.

ومن المعاصرين الإمام حسن البنا رحمه الله الذي استشهد عن عمر لا يتجاوز الثلاث والأربعين سنة، ولكنه لم يزل يمتد في حياة الأجيال امتدادا قويا، لا تحدّه مقاييس الأعمار الفانية.. إنك تراه هنا وهناك حيا، يحرك الأحداث المعاصرة، ويهز الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية هزا في كل مكان. أولئك قوم عرفوا كيف يعيشون عرض العمر، ولم يأبهوا لطوله الكاذب.

وقد وجدنا النصوص القرآنية والحديثية تنبّه المسلمين إلى هذا المعنى العظيم، حيث يملك المرء معه أن يعيش حتى التخمة، حياة حافلة بالحياة. يقول الله عز وجل في العبد يستثمر وقته في العمل الصالح: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:261)، وهو ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة"(متفق عليه).

ويموت الإنسان لكن يمتد عرض عمره بعده. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(رواه مسلم) وقال أيضا: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها بعده، من غير أن يُنْقَصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْءٌ."(رواه مسلم). وذلك كل فعل الخير الذي لا ينقطع أثره بالموت.

الحياة الآخرة

ثم إن الإيمان بالحياة الآخرة يشعر المسلم بأن الموت إنما هو مَعبر إليها، فلا يحس في وجدانه العميق بأنه ينتهي بالموت؛ فيعيش الحياة بذوق آخر، ملْؤه العمل والأمل في أن تكون أخراه أفضل من دنياه..

فيا لبؤس عمر يعيشه الإنسان وهو يشعر بأن الموت هو آخر المطاف! انظر إلى هذه الإشارة الإلهية في وصف نفسية الملاحدة المنكرين للبعث، إذ يقتلهم اليأس، ويدمرهم القنوط.

قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:125)، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾(الحج:31).
فانظر إلى هذا الزلزال النفسي، والشعور بالدمار والخراب في الحياة! الذي يملأ صدور الكفار، واليأس القاتل الذي يجثم على أحلامهم، لما يعيشونه من فقر شديد في العلم بالله. بينما يملأ هذا حياة المسلم سعة ورحمة، بسبب ما يتيحه له من آفاق أرحب، للنظر في الحياة والكون والمصير. وفقدانه يعني فقدان التوازن النفسي حتما في التعامل مع العمر.
هذا الرصيد الوحيد لدى الإنسان، الذي عليه أن يوظفه ليسعد أو ليشقى. ودون هذا الفضاء الواسع الرحب لا يوجد إلا اليأس القاتل، والخراب المدمر، وهو حال كل منكر للبعث من الكفار والملاحدة أجمعين. وما ذلك إلا لأنهم -كما وصفهم الله تعالى- ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾(الممتحنة:13).
ومن هنا فأنت ترى أن الباب الفسيح الذي يمد عمر المسلم بالاتساع، إنما هو مفهوم "الغيب".
هذا المفهوم الذي تقوم عليه العقيدة الإسلامية بأكملها. فهو الذي يملأ حياة العبد العامل أملا، ويغمر وجدانه حياة متدفقة أبدا، لا يحدها أجل، ولا تقطعها وفاة!

مجلة حراء

السبت، 6 أبريل 2013

سر الدعاء وخفاء الأسماء


الدين غذاء كلي شامل، غذاء للروح وللعقل وللبدن جميعا؛ فكل الصلوات، وكل الزكوات، وسائر الأعمال من الأركان والسنن والفضائل أطباق شهية من غذاء الدين. بيد أن كثيرا من الناس في هذا العصر غلب عليهم الاهتمام -من الدين- بما يغذي العقل فقط، أو ما يغذي عزيمة جهاد العدو فقط، أو ما يشحذ الذهن لخوض غمار الصراع السياسي فقط. وكل ذلك زاد ضروري للمؤمن، لكنه جزء من الدين وليس كل الدين.
ومن ثَمَّ كان لابد من تغذية أخرى، تغذية ترجع على كل ما سبق بالتخلية والتحلية؛ حتى يكون معبّرا بصدق وإخلاص عن حقيقة الدين.. تغذية ذات طبيعة أخرى ومذاق آخر، تنال فيها من لذات الروح ما لا تجده في شيء آخر.. إنها "خلوة الروح للمناجاة والابتهال"، خلوةٌ لا يعكر صلتَك بالله فيها شيءٌ على الإطلاق.
وإنما هي أوقات تختارها بنفسك، لتناجي فيها ربَّك بالثناء والدعاء، أوقات يصفو فيها قلبُك لله ويخلص له، بليلٍ أو نهارٍ، فتعرج إليه أشواقُك في خلوات الروح رَغَباً ورَهَباً، عبر كلمات الذكر والثناء عليه تعالى، بما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، مما عَلَّمَنَا سبحانه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى.. فتدعوه بما دعاه الأنبياءُ والصِّدِّيقون والأولياءُ المخلَصون.
وإنَّ لِذِكْرِ الله جل جلاله بالدعاء والثناء عليه -مَقْرُونَيْنِ- لأثراً عجيبا على النفس، وإن ذلك لمن أحب العبادات إلى الله، وأقربها طريقا إليه تعالى. والثناءُ على الله جل جلاله يكون أساساً بما أثبت لنفسه تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ذلك أن الثناء عليه تعالى بأسمائه وصفاته، وجميل صنعه وفعاله، وحكمة تقديره وتدبيره مرتبط أشد الارتباط بأدب الدعاء، في كل الصيغ الواردة عن الأنبياء والصالحين، كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية بشكل مستفيض؛ حتى إنك لا تكاد تجد دعاءً قرآنيا أو سُنِّيا إلا وتجده مقرونا بالثناء على الله بجمال أسمائه وصفاته تعالى. وهو منهج بقدر ما يكون أدعى للإجابة والقبول، يزيد العبد معرفة بالله وعلما به جَلَّ عُلاَه. وإن ذلك لَهُوَ من أعظم المقاصد التعبدية في الدين، ومن أجمل الطرق الموصلة إلى رب العالمين.
وإنَّ أوقاتاً تصفو فيها النفس لمثل هذا لهي "الأوقات" حَقّاً! وقد كان الربانيون من قبلُ إذا عَلِمُوا أحدَهم له مثل ذلك قالوا في ترجمته: "فلان له أوقات"، أو "كان صاحب أوقات" وكأنما "الوقت" -بهذا المعنى- إنما هو ما تمضيه في مناجاة الله.. وما سواه ليس لك بوقت، بل قد ضاع منك ومضى هدراً..! وأما الآخر فقد بقيتْ لكَ بركاتُه إلى يوم القيامة؛ لحظاتِ خُلْدٍ تؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن ربها، فَأَكْرِمْ بِهِ من "وَقْتٍ" وأنْعِمْ!
ذلك أن المناجاة لله والابتهال -بالدعاء والثناء عليه تعالى- تورث القلب إشراقا نورانيا خاصا، يجعل العبد شفافَ الروح، صافي الوجدان، يرى بنور الله.. فإذا به يتدرج -ما داوم على ذلك- عبر مدارج الإيمان نحو منـزلة الولاية حتى يكون ممن أوتي البركةَ والحكمة، من الصّدّيقين والرّبّانيينَ.

سر الإخلاص
فأنْ تُناجيَ الله بالدعاء -كما وصفنا- يعني أنك تعبده بصدق، لأن الدعاء إنما يكون عند "الشعور بالافتقار" وذلك سر الإخلاص، وحقيقة التوحيد؛ ومن هنا لا يمكن للمضطر إلا أن يكون مخلصا إذا دعا الله جل وعلا على الحقيقة؛ نعم، حتى لو كان مشركا. وإنما يكون إخلاصه للحظة عابرة، هي لحظة "الشعور الاضطراري بالافتقار إلى الله"، ثم يعود إلى شركه.وسَبَبُ ذلك واضحٌ على مستوى النفس الإنسانية وطبيعتها، فاقرأ إن شئت قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾(الإسراء:67)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكاَنٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(يونس:22-23). ومثله قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾(العنكبوت:65)، والسر في إخلاص المشرك عند الدعاء -ساعةَ الخوف والاضطرار- إنما هو شعوره الصادق بالحاجة إلى الله اضطراراً، فهنالك يَضِلُّ عنه كلُّ ما كان يشرك به من قبل، ولا يبقى عنده من أمل حقيقي يتعلق به إلا الله.

حقيقة الدعاء
وإنما القصد من هذا كله بيان أن الدعاء هو التعبير الصادق عن الاحتياج والافتقار إلى الله؛ فكان بذلك هو أصفى لحظات العبادة لله وأخلصها لوجهه الكريم، والمؤمن الصادق المخلص هو أولى به وأجدر. فسير العبد إلى الله كلُّه دعاءٌ بهذا المعنى.. سواء في ذلك صلاتُه، وصيامه، وزكاته، وذكره، وشكره، وخوفه ورجاؤه، وسائرُ عمله. كل ذلك إنما حقيقته طلب رضى الله، وابتغاء وجهه جل علاه. وما معنى الدعاء غير هذا؟ فلم يبق شيء من الدين إذن لم يدخل في معناه. فلَكَ أن تقول إن الذي لا يدعو ربه -على كل حال- لا يعبده بصدق؛ بما هو لا يمارس العبادة على وجهها الحقيقي، أي تحقيق معنى الافتقار إلى الله في كل شيء، سواء على مستوى الوجدان أو التعبير.
ولذلك كان الدعاء هو جوهر العبادة وروحها. وكان ذلك البيان النبوي البليغ -من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم- مما رواه الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدّعَاء هو العبَادة" ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾(غافر:60)" (أخرجه الأربعة)، ومن هنا تضافرت الآيات، وتواترت الأحاديث في الأمر بالدعاء؛ فكان قول الله تعال مما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور دالا على وجوب الدعاء على الإجمال، إذ المخالفة مآلها ترهيب كما هو واضح من سياق الآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، وعلى هذا يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: "من لا يدْعُ الله يغضَبْ عليه" (أخرجه الحاكم)، أي بما هو قد استغنى عن الله، فكأنما الحديث تفسير للآية. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "سلوا الله كلَّ شيء حتى الشِّسْعَ، فإن الله عز وجل إن لم ييسّره لم يتيسّر".(1) وهو تعبير بليغ عن حقيقة التوحيد وإخلاص الدين لله عقيدةً وعملا.
وليس عبثا أن يقص علينا القرآن الكريم أحوال الأنبياء والمرسلين في تحقيق هذا المعنى العظيم، وينقل إلينا عباراتهم الرقيقة، ومواجيدهم الجميلة، في مناجاة الله، والابتهال إليه رَغَباً ورَهَباً. وإنما كانت تربية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه بتعليمهم اللجوء إلى الله في اليسر والعسر تحقيقا لهذا المعنى من الإخلاص والتعرف إلى الله بصدق.
ثم إن العبد إذ يغفل عن ربه تثقل نفسه ويضيق صدره بما يقع له من غرق في أوحال النفس وأدخنة الشيطان، فيحتاج إلى لحظات للتصفية، يجأر فيها إلى الله بالدعاء مستغيثا ومستعينا، حتى إذا انخرط في سلك المواجيد السائرة إلى الله بصدق تدفق عليه شلال الرحمة شفاءً وعافيةً فتنهض روحُه يَقِظَةً قويةً.. تستعيد عافيتها، وتسترد صفاءها بإذن الله. فمن ذا يستغني عن دعاء الله إلا جاهل بالله!؟

الأسماء الحسنى بين التجلي والخفاء
اهتم العلماء كثيرا -سلفُهم وخلفُهم- بقضية الأسماء الحسنى في سياق التعبد بها دعاءً وابتهالا إلى الله جل علاه نظرا لجلال أسرارها وجمال أنوارها، ولِمَا ورد في ذلك من الأمر في كتاب الله، من مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:180)، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾(الإسراء:110)، وما صح في السنة النبوية الشريفة من قوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله تسعة وتسعين اسما -أعطى مائة إلا واحدا- من أحصاها دخل الجنة، إنه وِتْرٌ يحب الوِتْرَ" (متفق عليه)، وفي رواية: "من حفظها دخل الجنة" ورُوِيَ أيضا بصيغة: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما -مائة غير واحد- لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" (متفق عليه). وما ذلك كله إلا لأنها مدخل عظيم للتعرف إلى الله تعالى، والعروج إليه سبحانه عبر مقامات معرفته ومنازل محبته للفوز بكرم ولايته.

المراد بحفظ الأسماء وإحصائها
غير أنه تنتصب بين أيدينا ههنا قضيتان: الأولى تتعلق بمفهوم الحفظ أو الإحصاء الوارد في الحديث، والثانية تتعلق بمسألة عد هذه الأسماء وتعيينها. فأما القضية الأولى -وهي الراجعة إلى المقصود بمعنى الحفظ والإحصاء- فقد سبق لنا كلام عنها في غير هذا الموطن نلخصه كما يلي: وذلك أنه "قد ذهب أغلب العلماء -ما سترى بحول الله- إلى أن "الحفظ" هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات فقط، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك" (رواه أحمد والترمذي). والمقصود بحفظ المقتضيات توقيع كل أعمالك وتصرفاتك بما تقتضيه دلالاتها من حدود والتزامات.
فمثلا إذا انطلق العبد في طلب رزقه واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه تعالى "الرزاق"، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم ألاّ مانع له منه وقد كتبه الله له، ويكون لهذا -إن صح اعتقاده فيه- أثره الإيماني، يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرمانا، إذ وجد في معرفته باسم "الرزاق" أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهو قصد من مقاصد حفظ "الاسم" من أسمائه الحسنى؛ الثبات على ذلك أمام الفتن، لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئنا آمنا من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله، موقنا أن الله لا يريد به إلا خيرا. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن، والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر وكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (رواه مسلم).
إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله. وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى "الرزاق" يذوق العبد من معنى "الحفظ" جمالا حميدا، وأنسا جديدا، فتعلو القدم بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون في "حفظ" كل اسم من أسمائه الحسنى -بهذا المعنى- مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حبا لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقا إلى السير في طريق المعرفة الربانية، التي كلما ذاق منها العبد جديدا ازداد أنسا وشوقا، فلا تكون العبادة -بالنسبة إليه حينئذ- إلا أنسا، وراحة، ولذة في طريق الله، إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه تعالى بالأوقات والصلوات والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى -من كل ذلك- مسالك تقربك إلى الله سبحانه وتوصلك إليه.
هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: "وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها"(2). وقال أيضا: "وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء، وتعرف خواص بعضها (...) قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم من الأسماء".(3)
ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن... إلخ. فكلها "حسنى" بصيغة التفضيل المطلقة هذه، أي لا شيء أحسن منها، فهي تبث النور والسلام والجمال، في طريق السالكين إليه تعالى بحفظها، وتملأ قلوبهم إيمانا وإحسانا".(4)

عَدُّ الأسماء وتعيينها
وأما القضية الثانية وهي الراجعة إلى إشكال عَدّ هذه الأسماء وتعيينها صيغةً وعبارةً، الواحدة تلو الأخرى إلى تمام التسعة والتسعين؛ فإنها محط خلاف بين كثير من العلماء، خاصة وأنه لم يرد في ذلك حديث صحيح يسردها جميعا ويعينها بذاتها، وقد ضعف العلماء ما أخرجه الترمذي وغيره من الحديث الوارد في سردها وإحصائها. إلا أنه لا يكون عبثا أن يكلف الله ورسوله -ندبا أو إيجابا- بأمر مُقَدَّرٍ على وجه التحديد، ويبقى مع ذلك مجملا غير قابل للتطبيق والتحقيق، هذا خُلْفٌ، بل هو ممتنعٌ وجودُه في الشريعة، وهو يتخرج على القاعدة الأصولية القاضية بأنه: "لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة".
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما -أعطى مائة إلا واحدا- من أحصاها دخل الجنة" فهو نص في عدد هذه الأسماء، بما يعني أنها أسماء محصورة محددة من بين عدة أسماء أخرى غير مقصودة بالعد ولا الإحصاء في خصوص هذا التكليف. والسياق ههنا قاض بأن العدد "تسعة وتسعين" لا يخرج عن ظاهره بل هو عدد حقيقي مقصود، فقد قال: "أعطى مائة إلا واحدا" لتأكيد ظاهر العدد مما يجعله نصا على معناه بلا منازع. وإذن لم يبق إلا شيء واحد، وهو أن هذه الأسماء موجودة فعلا، يمكن الاشتغال بها دعاءً وتعبداً، وليست من قبيل المجهول غير المبيَّن، وأن الندب مُتَوَجِّهٌ إليها حقيقةً لِمَا عُلم من أن الإتيان بها إحصاءً وعدّا وحفظا ممكنٌ شرعا وعقلا. فأين هي إذن؟
الجواب بسيط: إنها جميعها في كتاب الله، فمن قرأ القرآن كله أدركها قطعا. نعم، المشهور أن ما ورد منها في الكتاب -مما هو متفق عليه- إنما هو نحو الثمانين اسما، على اختلاف في العد.(5) وهذا راجع إلى قضية معنى "الاسم"، وما المقصود منه؛ هل لابد في عد الأسماء الحسنى وإحصائها من عبارة مفردة على جهة التسمية العَلَمِيَّةِ؛ أم يمكن في أسماء الله الحسنى بصفة خاصة الوصول إليها عَدّاً وإحصاءً وحفظاً من خلال مفاهيمها ومعانيها دون عباراتها المفردة؟
ذلك ما نرجحه، وهو أن بركة الاسم قد تحصل للعبد من خلال الوصول إلى مفهومه دون عبارته المفردة، لكن على أساس ألا يزعم المرء أن الاسم من الأسماء الحسنى هو هذه العبارة بالذات أو تلك، ولكن له فقط أن يقول: إنه ههنا في هذه الآيات، أي أن مفهومه متضمن فيها، على غرار ما ورد في معنى "اسم الله الأعظم" من النصوص، كما سترى بعد قليل بحول الله. إذ قد تكون حقيقة الاسم من أسماء الله الحسنى مضمنة في عدة آيات أو عدة جمل، وليس بالضرورة في لفظة واحدة مفردة، ويكون ذلك الاسم مما أعطى الله لعباده، أي ضمن التسعة والتسعين.
ولنا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل، فقد صح في أحاديث الاسم الأعظم أنه قد يكون عبارة عن عدة أسماء، أو عدة صفات، أو عدة كلمات، أو عدة جمل، في عبارات مختلفة، قد تتداخل معانيها وتتقاطع، وقد تختلف اختلاف تكامل؛ بما يوحي أن للاسم الأعظم عدة تجليات. فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه" (رواه ابن ماجه والطبراني).
وقال صلى الله عليه وسلم بشيء من التفصيل: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة:163)، وفاتحة آل عمران: ﴿الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(آل عمران:1-2) (رواه أحمد وأبو داود). وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: "لقد سألتَ الله بالاسم الأعظم، الذي إذا سُئِلَ به أعطَى، وإذا دُعِيَ به أجاب" (رواه أبو داود والترمذي).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول: اللهم إني أسألك بأنْ لكَ الحمدُ، لا إله إلا أنت، يا حَنَّانُ، يا منَّانُ، يا بديعَ السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألتَ الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى" (رواه أحمد وابن ماجه). فهذا كله دال على أن الاسم الأعظم ليس بالضرورة عبارة واحدة، بل قد يكون كذلك، وقد يكون في عدة عبارات من عدة أسماء أو عدة صفات، كما رأيت في النصوص الصحيحة الواردة قبل. ومن هنا نرجح أن بعض الأسماء الحسنى هي أيضا قد تكون لها تجليات شتى في كتاب الله تعالى. وهي غالبا ما تكون واردة في الآيات والسور التي يصف الله فيها نفسه، مما يتعلق بشؤون ربوبيته، وكمال ألوهيته، وعظيم قدرته تعالى، من الخلق والأمر والقيومية والهداية، وما يحق له بعد ذلك على خلقه من إفراده تعالى بالخضوع له والعبودية رَغَباً ورَهَباً؛ مما ورد في سياق الأمر بعبادته توحيدا وتفريدا. كل ذلك وما في معناه مما هو وارد في القرآن الكريم متضمن لأسمائه الحسنى وصفاته العلى. ونحن نرجح أنه ما من اسم من الأسماء المقصودة بالعد والإحصاء والحفظ على ما ورد في الحديث المتفق عليه إلا وهو منصوص عليه في القرآن الكريم، بهذا المعنى الذي ذكرنا للأسماء إن شاء الله. وقد حرص غير واحد من علماء السلف والخلف على استخراجها من القرآن على ترجيح أن سياق الأية: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾(الأعراف:180) يفيد أنها كذلك. وإلى هذا ذهب غير واحد من أهل العلم، فقد قال القرطبي في كتابه الأسنى في شرح الأسماء الحسنى: "العجب من ابن حزم، ذكر من الأسماء الحسنى نيفا وثمانين فقط، والله يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:38)".(6)

علماء تتبعوا الأسماء من القرآن
وقال ابن حجر في فتح الباري: "وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا، فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد. فروينا في كتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن. وكذا أخرج أبو نعيم عن (...) محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: "سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال: هي في القرآن" وروينا (...) عن حبان بن نافع، عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث: "إن لله تسعة وتسعين، أعطى.."، قال: فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا، فعرضناها على سفيان، فنظر فيها أربع مرات، وقال: نعم هي هذه".(7)
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: "وقد عاودت تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررتها منه تسعة وتسعين اسما. ولا أعلم من سبقني إلى تحرير ذلك. فإن الذي ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن، بل ذكر ما اتفق له العثور عليه منه، وهو سبعة وستون اسما متوالية، كما نقلته عنه، آخرها "الملك"، وما بعد ذلك التقطه من الأحاديث. وقد رتبتها على هذا الوجه لِيُدْعَى بها:
"الإله، الرب، الواحد، الله، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الحي، القيوم، العلي، العظيم، التواب، الحليم، الواسع، الحكيم، الشاكر، العليم، الغني، الكريم، العفو، القدير، اللطيف، الخبير، السميع، البصير، المولى، النصير، القريب، المجيب، الرقيب، الحسيب، القوي، الشهيد، الحميد، المجيد، المحيط، الحفيظ، الحق، المبين، الغفار، القهار، الخلاق، الفتاح، الودود، الغفور، الرؤوف، الشكور، الكبير، المتعال، المقيت، المستعان، الوهاب، الْحَفِيُّ، الوارث، الولي، القائم، القادر، الغالب، القاهر، البر، الحافظ، الأحد، الصمد، المليك، المقتدر، الوكيل، الهادي، الكفيل، الكافي، الأكرم، الأعلى، الرزاق، ذو القوة، المتين، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول، رفيع الدرجات، سريع الحساب، فاطر السماوات والأرض، بديع السماوات والأرض، نور السماوات والأرض، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام".
[ثم قال:] تنبيه: في قوله "من أحصاها" أربعة أقوال، أحدها: "من حفظها"، فسره به البخاري في صحيحه (...) ثانيها: من عرف معانيها وآمن بها. ثالثها: من أطاقها بحسن الرعاية لها وتخلق بما يمكنه من العمل بمعانيها. رابعها: أن يقرأ القرآن حتى يختمه؛ فإنه يستوفي هذه الأسماء في أضعاف التلاوة. وذهب إلى هذا أبو عبد الله الزبيري. وقال النووي: الأول هو المعتمد. قلتُ(8): ويحتمل أن يراد من تتبعها من القرآن، ولعله مراد الزبيري"(9).
صحيح أن السنة النبوية ورد فيها من الأسماء الحسنى والصفات العلى الشيء الكثير، مما يربو -إذا أضيف إلى الأسماء المفردة المنصوصة في القرآن- على عدد التسعة والتسعين بكثير. ولذلك فقد وقع الخلاف في أيها المقصود بالإحصاء -في الحديث المذكور- مما لم يقصد، بيد أن منهج القرآن قائم على أن عظائم الأمور من أمهات الفضائل وأمهات الرذائل؛ يكون عادة مما نص عليه الله -جل علاه- في القرآن. وإنما يرد في السنة تفصيل طريقة العمل به، أو بيان فضله. وبما أن القرآن هو أعظم كتاب في التعريف بالله ربا وإلها -وتلك من أهم مقاصده العظمى- فلا يعقل أن يخلو من أمهات الأسماء الحسنى، لاسيما وأن الله عز وجل نَصَّ في غيرما موطن من كتابه على أهميتها، وعلى طلب الدعاء بها كما مر في قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:180).
فإذا قيل أين هي؟ قلنا إنها فيما نص الله تعالى عليه من الأسماء المفردة في القرآن، من مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالاَرضِ وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيمُ﴾(الحشر:22-24)، ثم إنها أيضا حاضرة في كل آية وصف الله تعالى بها نفسه، إذْ كل ذلك أيضا متضمِّن لمعنى الاسم، كما في قوله تعالى من سورة آل عمران: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(آل عمران:26-27).
فهذه الآيات العظيمة متضمنة لعدد من مفاهيم الأسماء الحسنى، وهي وإن لم ترد بصيغٍ عَلَميّة أو عبارات مفردة إلا أنها عميقة الدلالة جدا على عرض جانب من عظمة الله تعالى وكمال قدرته على كل شيء بما يحيل على مفاهيم لأسماء حسنى واردة على سبيل العَلَمِيَّةِ الصريحة في مواطن أخرى من الكتاب والسنة كأسمائه تعالى: "المالك، والملِك، والحي، والقيوم، والقدير، والقادر، والخالق، والرزاق" ونحو ذلك كثير...
فمن سأل الله بمثل هذه المواطن من القرآن مُضَمِّناً في دعائه نصوصَ الآيات -كما مر في بعض أحاديث الاسم الأعظم الثابتة- أدرك الأسماء الحسنى المقصودة جميعا إن شاء الله. ومن أضاف إلى ذلك ما صح من السنة النبوية من الأسماء كان -بإذن الله- أعمَّ وأشمل وأحوط لمن قصد إحصاءها إحصاءً وإن لم يكلف نفسه عناء العد الحرفي والاستقراء اللفظي. فإذا بنى ذلك كله على ما ذكره الشراح من معنى الحفظ -بما هو التحقق والتخلق بمقتضياتها- رَجَا أن ينال وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفوز بالجنة، وإنما الموفق من وفقه الله.
_______________
الهوامش
(1) قال الألباني: "أخرجه ابن السني رقم: 349، بسند حسن". والشِّسْع: أحد سُيُور النعل، مما يعقد به.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 11/226، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.
(3) فتح الباري، 11/226- 227.
(4) بلاغ الرسالة القرآنية للمؤلف: 53-55.
(5) عدها الشيخ العثيمين رحمه الله في كتابه (القواعد المثلى) "واحدا وثمانين اسما" بإضافة اسم "الحفي" أخذا من قوله تعالى حكايةً لقول إبراهيم لأبيه: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾(مريم:47). وواضح أن سياق الآية لا يسعف في الدلالة العَلَميّة على هذا اللفظ لعدم إطلاقيته. وقد تردد فيه ابن حجر من قبلُ رغم عده إياه.
(6) نقلا عن تلخيص الخبير في أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر العسقلاني، 4/173، تحقيق عبد الله هاشم اليمني المدني. ط. 1964/1384، المدينة المنورة.
(7) فتح الباري:11/217.
(8) القول لابن حجر.
(9) تلخيص الحبير: 4/173-174 

أ.د. فريد الأنصاري


من أنت أيها الإنسان؟


أ.د. فريد الأنصاري

من أنت..؟ أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة،
ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال، تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة "من أنا؟" و"من أنت؟" ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح! ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!
أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض، وهي قصة مثيرة ومريرة!

القرآن يعرّف الأنسان بنفسه
ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾(العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان -بَعْدُ- في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(الإنسان:1-3) وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾(السجدة:6-9).
ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان -بما هو عدو للإنسان- هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه، بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرِّفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده، حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه، ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه.

الإنسان بين صراع الحق والباطل
ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن. فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار! قال عز وجل حكايةً عن إبليس: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾(الإسراء:62-65). من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصة مع القرآن، وقصة مع الشيطان.
فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! ارْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي. تمضي جادةً غير لاهية -كما أُمِرَتْ- إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها ولم يبق بين يديك سوى هذا "الكتاب"!؟
فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم، وأنى تجدها إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة -لكل نفس في نفسها- علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(الإسراء:9-10).
نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحيى الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحوِّل مجرى التاريخ. وكل ذلك كان -عندما كان- بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان على يد أي كان من الناس، بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته، وتلك هي القضية.
ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق -كل الخلق- عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟

حبل الله الممدود من السماء
ألم يقل الله في القرآن عن القرآن بالنص الواضح القاطع: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم إن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد. فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه ثم قال: "أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالو: بلى، قال: "إن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً" (رواه ابن حبان والبيهقي). ومثله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم بصيغة أخرى: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (رواه الطبري). تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟
ألم يأن للمسلمين -وأهل الشأنِ الدَّعَوِي منهم خاصة- أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات والعلامات؟ أليس الله جل ثناؤه هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو جل وعلا رب كل شيء ومليكه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت، ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره، ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه!؟ أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون؟ ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(فصلت:11)، ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده، أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان أن يصارع الهرم والموت، ولكن هيهات هيهات!
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جميع الخلق، كافرهم ومؤمنهم.

البعث القرآني
يولد الإنسان يوما ما، وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل، فكان البدءُ هو آية الختام. هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(الرحمن:26-27).
ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن، ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا. فوا أسفاه على هذا الإنسان، ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين، كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم، ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(يس:30).
إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية، فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس، وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري طيورا حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو، روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات، فتحيا من جديد. وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد، قال جل ثناؤه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾(الشورى:52-53).

مسؤولية الإنسان الوجودية
من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم، نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير، النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾(الأنبياء:97). وقريبا جدا -واحسرتاه!- تنفجر به الأرض والسماوات، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(الأنبياء:104).
ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص، إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قرارا واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى، وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا، ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة، آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً عسى أن يكونوا من المهتدين. وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري، قال الحقُّ جل وعلا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(الأنعام:104).
من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا، قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية -قولا وفعلا وتقريرا- إلا تفسيرا للقرآن العظيم. وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين في وصفه عليه الصلاة والسلام لما سئلت عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: "كان خُلُقُه القرآن" (رواه مسلم). ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب.

التّمسيك بالكتاب وإقامُ الصلاة
نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله -كما أمر الله- نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح، وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما، وأن لا إمكان لكل ذلك -صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً- إلا بالقرآن المجيد. وهو قول الحق -جل ثناؤه- في آية عجيبة، آية ذات علامات -لمن يقرأ العلامات- ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾(الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين، هكذا: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾. وإن تلك لآية، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آل عمران:79). وقد قُرِئَتْ: ﴿تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ و﴿تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالة على الله، وراسمة لطريق التعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾.

مفهوم القرآن
ولنسأل الآن ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله، بل الكون كله..؟ أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه "كلام الله"، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: "القرآن كلام الله". هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا..
الله جل جلاله خالق الكون كله.. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟ طبعا لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء السماء الدنيا، الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرة وعلما.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان، فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(طه:13). أيّ وجدان وأيّ قلب يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟ اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف، وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر:21)، وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾(ص:18-19)، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأعراف:143).
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عل، أي من فوق، لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة. إنه رب الكون.. فتدبر: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطا بالكون كله، متحدثا عن كثير من عجائبه. قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾(الواقعة:75-82). سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.

تالي القرآن متصل ببحر الغيب
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم خلقا، وأمرا، وعلما، وقدرة، وإبداعا. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾(المزمل:5). ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الفرقان:5-6). وإنه لرد عميق جدا. ومن هنا جاء متحدثا عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾(الكهف:54). وقال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:53-54).
فليس عجبا أن يكون تالي القرآن متصلا ببحر الغيب، ومأجورا بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم. أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن يكفيه ذلك دلالة وأيّ دلالة، ويكفيه ذلك عظمة وأيّ عظمة. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (رواه الترمذي).
ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وَارْقَ، ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها"(رواه أحمد والترمذي)، وقال أيضا: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب، حَلِّهِ، فيُلْبَسُ تاجَ الكرامة، ثم يقول: يا رب زِدْهُ، فيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول: يا رب اِرْضَ عنه، فيرضى عنه، فيقول: اِقرأ، وَارْقَ، ويُزَادُ بكل آية حسنة" (رواه الترمذي)، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الجمعة:4).
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين. قال صلى الله عليه وسلم في خصوص هذا المعنى من حديث سبق: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض". وقال في مثل ذلك أيضا: "أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، و لن تضلوا بعده أبدا" (رواه الطبراني). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم: "أبشروا.. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالوا: بلى، قال: "فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا".

أهل القرآن هم أهل الله
هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا، كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(آل عمران:29) سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماما كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء... إلخ. كل ذلك في وقت واحد -وهو تعالى فوق الزمان والمكان- لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحدا سواك. احذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله، وتدبر.. ثم أبصر!
قال جل جلاله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمد:24). فتدبر..! ذلك هو القرآن، الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر، فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر.. إن فيه كل ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن عليك بالقرآن، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك تكن من "أهل الله" كما في التعبير النبوي الصحيح. قال عليه الصلاة والسلام: "إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته‌" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).

فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا، هو "من أنا؟". نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟

السبت، 23 مارس 2013

الشيخ فريد الانصاري - تحديات الاسرة المسلمة في المهجر


الشيخ فريد الانصاري - تحديات الاسرة المسلمة في المهجر

الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة . ذ فريد الانصاري

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة . ذ فريد الانصاري
الجزء الاول
.......




الجزء الثاني

الجزء الثالث

لأيام العشر من شهر ذي الحجة فضلها ، خصائصها ، الدروس التربوية المستفادة منها

لأيام العشر من شهر ذي الحجة
فضلها ، خصائصها ،
الدروس التربوية المستفادة منها
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
 
* مقدمة :
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام ، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى بشيراً ونذيراً ، وسراجاً مُنيراً للناس كافةً ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين ،            أما بعد ؛ 

الثلاثاء، 24 أبريل 2012

كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح " + تلخيص


كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح " 


كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح "
للشيخ "فريد الأنصاري" رحمه الله


مقدمة : الكتاب 


بأي لغة أستطيع تقديم الجمال؟ وها الكلمات كسيرة حسيرة، في زمن تصدرت فيه جمالية الأشباح على حساب جمالية الأرواح، وغطت الأصباغ الكاذبة جمال الفطرة الصادقة، فنصر الناس التمثال على الطبيعة، وضلت الحقيقة في الظلمات....
ملخص الكتاب :



تلخيص كتاب جمالية الدين : معارج القلب إلى حياة الروح.

للشيخ الدكتور فريد الأنصاري.


لخصه و اعتنى به " أبو عبد الرحمن يونس ابن المبارك المالكي البيضاوي "


مقدمة :


عندما نقول جمالية الدين فإننا نعني أن الله عز و جل الذي جعل الدين جميلاً، قصد أن يكون التدين جميلاً أيضاً، قصداً تشريعياً أصيلاً، إذ قُصِد منه ذلك ابتداءً، و ليس صُدفة و اتفاقاً.
و الجمال متعلق بالشكل و المضمون معاً، ذلك أن الله عز و جل فتح أمام البشرية معرضين للجمال، أولهما : هذا القرآن الكريم المجيد، و ما يتضمنه من حقائق إيمانية، تصل الإنسان بمنابع الجمال الحق، و مصدر النور الأعلى، و ثانيهما : هذا العالم الطبيعي الكوني، امتدادا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و ما يعكسه من شؤون الربوبية العليا، و أنوار الأسماء الحسنى.
و من هنا فجمالية الدين مفهوم يغطي علاقات المسلم مع ربه، و مع الإنسان، ثم علاقته مع البيئة أو الكون و الطبيعة، و كل ذلك يدخل تحت مفهوم ( العبادة ) الذي هو غاية الغايات من الخلق و التكوين، و لذلك فهذه الجمالية مفهوم مبثوث في أصول الدين و فروعه.
و جمالية الدينية في الحقيقة هي : ( الإيمان ) الذي يسكن نورُه القلبَ، فتُجَمِّل الأفعال و التصرفات التي هي فعل ( الإسلام )، ثم تترقى هذه في مراتب التَّجَمُل؛ لتصل درجة ( الاحسان )، إذ أن هذا الأخير هو عنوان الجمال في الدين، فنجد إذا أن التدين هو تَمَثُّلُ قيم الجمال، و التزين بأنوارها في السلوك و الوجدان.
و منه غاية هذه الرسالة هي تقرير، من جهة، أن الجمال جوهر أصيل في الدين، فخطاب الوحي قام على وضع مقاييس الجمال، و بيَّن منهاج التجمل بالدين؛ و من جهة أخرى، أنه قصد مبدئي أصيل من الدين.
تمهيد : في مفهوم ( الجمالية ) بين الإسلام و الفلسفة الغربية.
الجمالية هو علم يبحث في معنى الجمال من حيث مفهومه، و ماهيته، و مقاييسه، و مقاصده. فالجمالية في الشيء تعني أن الجمال فيه حقيقة جوهرية، و غاية مقصدية، فما وُجِد إلا ليكون جميلاً.
و الجمال في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو قيمة دينية : عقدية و تشريعية، أو من حيث هو مفهوم كوني، و كذا من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية.
و الفرق في الجمالية من مفهومَيْها الغربي و الإسلامي كالفرق بين الطبيعة و التمثال، أو بين الحقيقة و الخيال، إذ لم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة قارة في متحف ( اللوفر )، بل حيةً يشكلها بإبداعه اليومي بين ركوع و سجود، و طواف و سعي، أو بين صوم و تبتل، و انقطاع يصله كليًّا بالملأ الأعلى.
حول مفهوم ( الجمال ) في الفكر الغربي:
أرجع سقراط كل قيم الجمال إلى النفس، فجعله جمالا باطنيا يرجع إلى جمال النفس الفاضلة.
أما أفلاطون فيرى أن الجمال يتحدد في الجمال الإلهي و ذلك في وحدة صورته، و قد عرَّفه بانه موضوع محبة النفس كما أنه ينتمي إلى عالم الحقائق العقلية.
و قد نحا هيجل و كانط نفس المنحى عندما أرجعوا الجمال إلى مظاهر تشكلات الروح المتمثلة في كل ظاهرة طبيعية أو مادية أو نُظُم إنسانية، أو فكرية، و غاية هذه الروح أن تعي ذاتها معتمدة على الفن و الدين و الفلسفة، فأنتج ما يُعرَف بالإستطيقا التي هي إبداع الروح، و خلق الوعي، و نتاج الحرية.
أما كامي و سارتر فقد ربطوا الجمال بالتمرد، فالفن على حد زعمهم يَبرُز في رفض الإنسان أن يكون على ما هو عليه، فيُعِيد تشكيل العالم و صياغته من خلال عمله الفني، و قد تبنى العالم الغربي هذه العبثية ( الجمالية ) لملاءمة ظروف اهتزاز القيم فيه، و توجهاته المتمردة على كل شيء.
حول مفهوم ( الجمال ) في الإسلام من الترتيل إلى التشكيل:
الإنسان جميل ! بل هو أجمل مخلوق في الأرض ! فالله سبحانه و تعالى قد خلق الإنسان في أجمل صورة و أحسنها !
ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلاً، و حسَّنَه تحسيناً.. عساه يكون في تدينه حسناً جميلاً ! فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية !
فهذا الكون هو قصرك الزاهي أيها الإنسان ! محاطاً بكل آيات التسخير، لتصريف العمر كأعلى ما يكون الذوق، و كأجمل ما تكون الحياة ! فما يكون من المؤمن حينئذ إلا السجود لمن أفاض على الكون بهذا الجمال كله ! الجمال الحي المتجدد !
كما نلمس جماليات القرآن الكريم من السور و الآيات المشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني، حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل !
إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة، الساحرة ! و أرسل الرسل بالجمال، ليتدين الناس على ذلك الوازن و بتلك المقاييس، مما يحول إلى ان الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلاً و مضموناً، مبنىً و معنىً، رسماً و وجداناً.
و الجمال الإيماني متمثل في أن تحب الإيمان ذاته مما يعني أن الدين سكن هواك، و الحب لا يسكن قلباً إلا إذا شاهد مباهج الجمال التي تسحره و تأخذ بمجامعه ! فليكن الدين إذن : سيراً إلى الله في مواكب الجمال !
و قد جمع الحق سبحانه في مفهوم الدين بين جمال الدين و جمال الدنيا، كما رقَّى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذوق على مستوى التصرف و السلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، و لكن أيضاً في مجال الدعوة و الإرشاد.
و من هنا نجد أن أسس الجمالية في الإسلام تقوم على أركان ثلاثة، هي : الحكمة و المتعة و العبادة.
فأما الحكمة : فما من جمال إلا و هو رسالة ناطقة بمعنى معين، و منه فاستعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي لا تنتج إلا أروع التعابير اللغوية، و الرمزية، على جميع المستويات البشرية و الحيوانية و الطبيعية عموماً، إذ هي في نهاية المطاف ضرب من قوانين التوازن في الحياة، فما الإحساس الجمالي إلا وسيلة وجودية لاستمراره و توازنه.
و أما المتعة و الإمتاع سواء في ذلك ما هو على المستوى الحسي، أو ما هو على المستوى العاطفي و الوجداني، فحاجة قائمة يسعى الإنسان لإشباعها.
و تعتبر العبادة سلوك وجداني جميل محض، و ذلك بما تبعثه في النفس من أنس و شعور بالاستمتاع عند السير إلى الله في ضوء جمال أسمائه الحسنى، فهي الركن الغائي من خلق الجمال نفسه، بل هو غاية الغايات من الخلق كله.
الإشراق الأول في جمالية التوحيد.
المشهد الأول : العقيدة الإسلامية بين جمال القرآن، و تقسيمات علم الكلام.
إن عقيدة الإسلام لمسة تربوية ذات أثر روحي عميق على الوجدان و السلوك، كما عرضها القرآن آيات بينات و محكمات، و ليست كما صورها علم الكلام بشتى مدارسه و مذاهبه، فالتعبير عن حقيقة الذات الإلهية لا يكون على كمال صدقه، جلالا و جمالا، إلا إذا كان بما عبر الله به عن ذاته سبحانه و صفاته. و من هنا كان التوقيف في مجال التعبير العقدي في الإسلام.
إن السر الذي تتضمنه عقيدة ( لا إله إلا الله ) يَكْمُن في ( جمالها )، الذي لا يُدْرَك إلا بحاسة القلب، و قد ضاع صفاء الدين و جماله السماوي في غبار التأويلات، و رسوم التقسيمات، فضللنا عن أن عقيدتنا جميلة.
( لا إله إلا الله ) كلمة ( قلبية ) مدارها على وصف حال، و الاعتراف بذوق صفات الكمال و الجلال ! إنه تعبير عن الخضوع الوجداني التام لله.
فكلمة ( الله ) هو لفظ الجلال، الاسم العَلَم على الذات الإلهية، الاسم الجامع لكل الأسماء الحسنى و الصفات الإلهية العلا. و لفظ ( الله ) فرد في اللغة، فلا يجمع و لا يتعدد.
و كلمة ( إله ) في سياقها اللغوي و الوجداني هو ما يَشُوق القلب، و يأخذ بمجامع الوجدان، إلى درجة الانقياد له و الخضوع.
فـ ( لا إله إلا الله ) إذن تُعتبر تعبيرا عما يجده في قلب العبد من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، و لا مرهوب إلا الله، و لا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله، رغبة و رهبة و شوقا و محبة.
فالإسلام ما هو إلا الخضوع لله رب العالمين، و حقيقة كون المسلم عبدا هي الحقيقة التي تغيب عن أكثر المسلمين، فيحدث بسبب ذلك الانحراف بشتى ألوانه و أشكاله، و العبد مسلوب الإرادة ! بالمعنى الوجداني، إذ هو واقف على العتبة ينتظر الأمر و النهي بشوق المحب، ليبادر إلى التنفيذ دون سؤال: علامَ و لِمَهْ؟
و من هنا فعقيدة الإسلام تعتبر ميثاق المحبة بين الله و عباده ! أو هي دستور الإسلام ! و المحبة لا تقوم بقلب العبد الصادق إلا على جناحي الخوف و الرجاء، و ما تفرع عن ذلك من معاني الرَّغَبِ و الرَّهَبِ !
و نحن في حاجة ماسَّة و مستعجلة، لإعادة قراءة عقيدة السلف الصالح من مصادرها الأولى ! فالمفكر السلفي المعاصر يقرأ تراثه بمنهج تجزيئي إسقاطي، فكونه تجزيئي إذ يقرؤه بعين واحدة، فلا يتصور حقيقته في شموليته الكلية. و إسقاطيا فلأنه استعمل تعبيرات هذا التراث للتعبير عن مشكلات العصر النفسية و السياسية بصورة حرفية ! دون مراعاة الفروق بين الثوابت و المتغيرات، سواء منها ما تعلق بالنصوص أو بتحقيق المناطات ! و في ذلك ما فيه من الشطط العلمي و الانحراف المنهجي !
المشهد الثاني: في جمالية التعريف القرآني بالله
إذا كانت ( لا إله إلا الله ) شهادة على ما في القلب، من تعلق بالله وحده، فإنه لا بد أن يكون ذلك مبنيًّا على معرفة الله ربًّا ! أي اعتقاد عقيدة الإسلام فيما يتعلق بذات الله و صفاته سبحانه و تعالى، فالعلم بالله يورث خشيته سبحانه و محبته.
و الإيمان بالله من حيث هو تعالى ( إله ) سبب الإيمان الحقيقي بالله من حيث هو ( رب )، أي سيدٌ أَوحَد لهذا الكون، فالربوبية إذن جالبة للمحبة، فأي دعوة قرآنية إلى التوحيد و الإيمان، تَجِدْ سياقها قائما على عرض خصائص الربوبية، بشكل واضح لا غبش فيه.
الله ربًّا و جماله يفيض من بهاء ذاته تعالى و صفاته، صفات الجمال و الجلال ! فهو تعالى هو الأول بلا ابتداء، و الآخر بلا انتهاء، سبحانه و تعالى علوًّا كبيرًّا، و أول نعمة إلهية ظاهرة علينا هي خلق آدم عليه السلام ثم توالت بعد ذلك النعم تترى، و لذلك فإن القرآن الكريم افتتح بالحمد لرب العالمين، و تمجيد أسمائه الحسنى، ثم بعد ذلك ثنى بالعبادة، التي هي نتيجة الربوبية، و قد طلب الله منا إحصاء أسمائه و الدعاء بها، أي نوحده في ألوهيته تعالى بها ! و ذلك باب العبادة.
و جمال الربوبية يتجلى في جمال الصنعة، و كمال الخلق، و تدفق الإنعام، و الفيض على العالمين بالحياة.. إلخ، فهو سبحانه بهر القلوب المحبة للجمال، فخضعت له عابدة متبتلة في محاريب الإيمان، مقرة أنه : ( لا إله إلا الله ) ! إن المحب الذي فني في المحبوب إنما حصل مل حصل، لما رآه في محبوبه من خصال الجمال و الجلال، فما أن أدرك العبد ما تقتضيه هذه الأسماء من صفات الجمال و الجلال، لزم أن يكون أول العابدين لله، و من هنا إذن كانت معرفة الربوبية مورِثة لمحبة الله، أي لعبادته.
فالعبادة إذن : هي التعبير الظاهر عما وجده المسلم في الباطن، إذ شهد أن لا إله إلا الله. إنها تعبير المحب عما وجد من حب ! و أي محب يستطيع الكتمان؟
المشهد الثالث: في جمالية التفكر الإيماني
من أسرار هذا الدين و لطائفه أن باب عقيدته هو التفكر ! فالله تعالى خاطب الكفار بالقيام، و التفرغ لشأنه، قبل الإيمان به، و ذلك بالخلوة به وحده سبحانه، للوصول إلى حقيقة الإسلام،
و التفكر فعل وجداني في العمق، فما العقل إلا آلة تلتقط الحقائق، و تعقلها، و لكنها لا تتخذ القرار إلا عن طريق القلب، الذي إن كان محجوبا بحجب المادة و الكثرة، لا يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. و هذا التفكر لا تنجح عمليته إلا بالتفرغ لله في الخلوة، الذي يتيح للقلب أن يتفاعل في صفاء مع معطيات الفكر، و يتواجد متلذذاً بمواجيد الشعور بمعية الله، و حقائق الكون الكبرى.
و التفكر يقود إلى كمال جمال الدين بالدفء الحاصل عند الشعور بالانسجام مع سائر الخلق السيَّار، كلٌّ في سربه و فلكه، فتجد بذاك ذوق الأنس، و يغمرك الحب الصادق ليُشعرك ذلة اللذة و المتعة العليا، و الشعور بالراحة في سبيل رضا المحبوب.
و للدخول إلى ملكوت الله، اسلك باب التفكر بوجدان المحبة الكبرى، فسترى إذن نعمة الخلق، أعظم بها من نعمة، و لمسة الحياة التي هي النعمة الكبرى بعد الخلق، كما أن التفكر في جمال الإحسان الرباني يُعتبر سر المحبة، و حين تشعر بالنعمة المسداة إليك تجد نفسك مطوقاً بحقها في الشكر، و لكنها نعمة أكبر بكثير من أن تحصى أو تحصر، فيمتلك القلبَ الشعورُ بالعجز و الذلة و الخضوع التام، و تلك هي ( لا إله إلا الله ).و أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحياة.
الإشراق الثاني في جمالية عقيدة اليوم الآخر.
المشهد الأول : في جمالية العمر.
العمر ذلك الامتداد الزماني الحاد المحدود، الذي يحد فترة حياة الإنسان، من الولادة إلى الممات، و هو قصير كله.
و الزمان الكوني نوعان : الزمان الأمري و الزمان الملائكي؛ فـ ( الزمان الأمري ): هو المشار إليه في قوله تعالى : يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ السجدة:5، و ( الزمان الملائكي ): هو المشار إليه في قوله سبحانه : تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ المعارج :4، كما يتجلى في صورة ( الزمان العِنْدِيِّ ) : و هو زمان الملائكة العندية. ثم الزمان الأخروي: و هو الزمان الخالد السرمدي الذي لا ينتهي أبداً !
فالزمن نسبي ! و تلك هي حقيقة الأعمار. و لكن شتان بين عمر و عمر، باعتبار العرض و الضيق؛ فالإنسان ينتبه إلى العمر من حيث الطول المتعلق بالزمن ( الماضي و الحاضر و المستقبل ) و لا ينتبه إلى العرض الذي يتعلق بالأعمال و المنجزات خلال كل فترة من فترات الزمن، و هكذا يبقى يخطو على عرض الطريق حتى يستوعب كل عرضها؛ فهو يسير طولاً و عرضاً، و تلك هي ( بركة العمر ) المرجوة في الأدعية المأثورة.
و قد ذم الله الحياة الدنيا، من حيث هي طول يُتلهف فيه على المتع الزائلة، عكس الجنة التي هي زمن خالد، فأنت تعيش اللحظة الواحدة مرات عديدة لا تنقضي أبداً ! كما أن نعمها الوفيرة لا تستنفد أبدا ! فذلك هو العرض ذو المعاني الجميلة.
و الجميل في الأمر أن العرض لا ينقضي بوفاة الإنسان؛ بل يمتد حتى بعد وفاته !
ثم إن الإيمان باليوم الآخر يشعر المسلم بأن الموت إنما هو معبر إليها، فلا يحس في وجدانه بأنه ينتهي بالموت؛ فيعيش الحياة بذوق آخر، ملؤه العمل و الأمل في أن تكون أخراه أفضل من دنياه.
المشهد الثاني : في جمالية الإيمان بالغيب.
تقوم العقيدة الإسلامية على مبدأ الإيمان بالغيب. و الغيب في معناه اللغوي: هو كل واقع حقيقي مجهول، فهو إذن ( وجود ) لكنه مُتَوَار عن المشاهدة.
و عالم الغيب في القرآن يمتد من عالم الشهادة، مما لا يعلمه الإنسان، جزئيًّا أو كليًّا؛ إلى ما وراء عالم الشهادة من العوالم الروحانية؛ بما يتضمنه من أمور واقعة في علم الله، و إن لم تكن قد وقعت بالفعل في الوجود المادي، مما هو مسطَر في أصول الاعتقاد الإسلامي.
فالكون كله غيب مطلق، و ما يعلم الإنسان منه شيئاً إلا بإذن الله، إما بواسطة الإلهام، أو طريق البحث العلمي، أو عن طريق الوحي.
إن مفهوم ( الغيب ) في الإسلام هو الذي يمنح الحياة أنداها و جمالها. و لذلك كان الإحساس في الدين : ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فإذا كان العبد قد استشعر الوجود الإلهي استشعار الرائي لحقيقته، فقد استشعر من باب أولى الوجود الغيبي، من العالم الروحاني العلوي، و الأخروي، استشعار الصحبة و المعية.
فهذا القرآن قام على مبدأ الغيب؛ و من هنا فإن أنواره إنما تشرق بالقلوب التي لها استعداد للتلقي الغيبي ! فالقلب وحده هو الأجدر لتلقي حقائق الغيب بالإيمان و التسليم، و قد بني عليه الكسب البشري التعبدي كله.
ثم إن الله جعل في الإيمان بالغيب متعة و لذة، لا تفضلها متعة و لا لذة من ملذات الحياة الدنيا ! تريح العقل من الشك، فترى عالم الروح عين اليقين.
المشهد الثالث : في جمالية الموت.
حقيقة الموت من حيث الجوهر حقيقة ذوقية لا تدرك ماهيتها إلا بتجربتها على الذات؛ و بمجرد حصول الذوق، تدرك الحقيقة كاملة، و تنزاح عنك الحُجُب.
و الموت حقيقة مقلقة، للمسلم إزاءها حيرته الخاصة ! حيرة العبد المشوق بمعرفة غيب الله في حياة البرزخ، و سر قدرته العظيمة بعد ذلك في إحياء الموات ! و لذلك فهي تورث صاحبها لذة و متعة، و خشوعاً بين يدي إلهه ! لا قلقاً و اضطراباً و تمرداً !
فلجمال الموت في الإسلام متعة الوصول ! إذ حياة المؤمن كلها أمناً و سلاماً في الدنيا و في الآخرة. و إنما هذه بالنسبة إليه استمرار لتلك، من حيث الامتداد الوجودي، فلا فناء و لا انقراض.
فالموت إذن في عقيدة الإسلام، هو لحظة من الجمال الروحي، تدخل بالسرور على أهل الشوق و المحبة، من الصديقين و الشهداء و الصالحين ! فكأنه باب من أبواب الجنة !
المشهد الرابع : في جمالية اليوم الآخر.
الحياة الآخرة هذا المقابل للحياة الدنيا، إذ هي وحدها هي الحياة، تبدأ بتغير أوضاع الكون، و إعادة خلقه من جديد؛ يملؤها رغبةً و رهبةً؛ و هو شيء رهيب، لا ينوب عن تصوير رهبته إلا أن تراه حقاًّ !! إذ ترى أهوال يوم القيامة، فيزداد مقام الخوف و الرجاء، ثم يتجلى ربك للقضاء بين خلقه، و تحلُّ اللحظة الفاصلة بين الحق و الباطل، فيتشكل الناس فريقين، كل يمضي عكس جهة الآخر، فيفترق بتفرقهم مقام الخوف و الرجاء إلى الأبد !
و من جمال اليوم الآخر في وجدان المؤمن أنه يوم موعد جميل.. موعد مع قافلة السالكين إلى الله، عبر قافلة النور الضاربة في الزمان الغابر، على امتداد تاريخ البشرية كلها ! كما له جمالية الرحيل إلى بلاد الله الخضراء: جنة الرضوان.. هناك حيث تلقى محمداً و صحبه، و قافلة الأحبة !
ثم إن في اليوم الآخر لموعداً آخر، إنه رؤية الله ! رؤية يستمد منها العابدون جمالهم، و يستدرُّون بها أنوارهم ! و يكتسبون من تجلياتها حياة الخالدين !
الإشراق الثالث في جمالية العبادة.
المشهد الأول : في جمالية ( الانتساب ) التعبدي.
العبادة: هي عنوان الجمال في الإسلام، و شعار المحبة. و إذا أحب الله الإنسان خاطبه بلفظ: ( عبدي ) أو ( عبادي ).. فنسبه الله إليه نسبة خصوص و إضافة.
و حقيقة العبادة شعور وجداني قبل أن تكون أعمالاً مادية ! و إحساس بحب من يوجه إليه العمل وهو الله تعالى، لا ( ضريبة ) يؤديها المرء وهو كاره ! و من هنا فالعبادة كانت رغبةً قبل أن تكون رهبةً، مما يجعلها تحمل ظلالاً روحيةً هادئةً، يرتقي بها الإنسان إلى مقام العطف الرباني و التضييف الرحماني، فيحمل صفة الانتساب الإيماني.
و النسبة في الخطاب القرآني على ثلاثة أحوال :
الأولى: أن ينتسب إلى جِبِلَّته و طبيعته الخلقية، فيسميه ( الإنسان ) و ذلك في سياق الابتلاء، و تحميله مسؤولية و أمانة التكليف و الاستخلاف.
و الثانية: أن ينسبه إلى أبيه؛ فيسميه ( ابن آدم، و بني آدم ) و ذلك لضعف عزيمته و كثرة نسيانه.
و الثالثة: أن ينسبه إليه تعالى فيسميه ( عبداً، أو عبدي، و عبادي )، و هي سياق المحبة الإلهية العالية للعباد، إذ العبودية هي محبة متبادلة بين الرب الأعلى و المخلوق الأدنى !
فالمؤمن عاش ( عبداً ) لله في الدنيا، فكان له الستر الجميل، و القرب الجليل، في الدنيا و الآخرة؛ فـ ( العباد ) هم الآمنون السالمون بإذن الله.
المشهد الثاني : في جمالية الصلاة أم العبادات.
الدين هو العبادة، و العبادة هي الصلاة؛ و قد جعلها الله مواقيت لرموز التحولات الزمنية. فالفجر بدْأ و به تبدأ الحياة، وزوال الشمس بداية العد العكسي في عمر الإنسان، و بذلك فصلاة الظهر تشهد منتصف عمرك، و العصر ينذرك بقرب الأفول ! فتنتهي الأضواء إلى ظلمة القبر فيكون الغروب ! فكيفية موت الضوء يحيل على كيفية موت الحياة، فلا عودة للحظة ماتت، ثم ندلج إلى الله بالعشاء صلاة سارية؛ فكأن صلاتك للخمس هي صلاة للعمر كله ! تتناثر مهجتك بها إلى الله تعالى وقتا وقتا، فإن فاتك وقتك فقد خرجت عن مدارك، وفقدت جزءاً من عمرك.
و أول البدء في الصلاة تجمل بالوضوء، فذاك شرط المرور إلى عتبة الصلاة، و تدور الفصول من حر إلى قر، فيبقى الوضوء سراًّ من أسرار الجمال؛ و الدنيا ما هي إلا وسخ أو دَرَن لا يغسله إلا أريج الطهور ! فلتسبغوا الوضوء على المكاره إذن سادتي الأتقياء، فتلك سيم الجمال في وجوهكم، و أطرافكم، يوم تَرِدون على المصطفى صلى الله عليه و سلم، و هي سِيَم ليست لأحد من الأمم.
و تكون الصلاة ! مستقبلا القبلة الجامعة لشتات القلب و البصر، الكل حول قلب واحد؛ و ترتفع الأيدي المحجلة تجاه القبلة في تكبيرة الإحرام، لتفريغ البال من جميع الأحوال، إلا حال الفقر المرفوق بالشوق إلى الغني الحميد، ثم تتأدب بالتزام الصدر في وقفة العبد بين يدي الملك العظيم. ثم تشرق التجليات ! فتحج الأرواح من محاريبها خمس مرات في اليوم !
ثم ينفتح القلب بكلمات من نور آخر، فإذا اللحظة مناجاة بين الخالق و المخلوقات ! فيكيف لهذا البصر أن يمتد قيد أنملة نحو السماء، و الرب بجلاله قِبَلَه؟
هذا المسرى الربيعي إلى الله، رغبا في ينابيع الرحمة و المغفرة، ترسم خطوات النور الهادي إلى الرحمن.
الإشراق الرابع في جمالية منازل العبادة.
تمهيد : في معنى " المنازل " و " الأحوال "
من جماليات الدين أن العبد السالك إلى ربه، متنقل في عبادته بين " منازل "، أو " مقامات "، و متلذذ في مواجيده " بأحوال ".
و السير: إنما هو قطع العمر في عبادة الله، باحثا عن نفسه، كادحا إلى ربه ! لأن عنصره ( أي العمر ) الجوهري هو عنصر من السماء. و إذ يدرك المؤمن هذه الحقيقة يملأ قلبَه الشوقُ و الحنين إلى موطنه الأول.
إن العبادة إذن تقرب إلى الله شبراً شبراً. إنها رقي في السماء. و السماء طبقات و درجات. و كل عبد في طريقه إلى الله يترقى. أنها إذن منازل، أو (مقامات)، و من هنا كانت الجنة منازل و درجات، فكان الصالحون يجدُّون و يجتهدون في السير.
و الأحوال: هي ما يجده العبد في سيره إلى الله من أذواق للعبادة، ذات لذات و مواجيد متفاوتة، بين نشاط و فتور، و بين قبض و بسط.
و المقامات: هي مقام العبد بين يدي الله عز و جل، مثل التوبة، و الورع، و الزهد، و غير ذلك (...).
و لذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها؛ بينما الأحوال لا تستقر، فلا يدري المؤمن حتى يجد من نفسه ذوقاً ما، و الحال ذوق المقام؛ و المقام نتيجة العمل، فآل الجميع إلى العمل !
المشهد الأول : في جمالية التوبة.
منزل التوبة أول المنازل، و أوسطها و آخرها. فلا يفارقه العبد السالك، و لا يزال فيه إلى الممات؛ فالتوبة هي بداية العبد و نهايته؛ و هي أول باب يَلِجُه السالك في مسرى المحبة الدائم الاخضرار.
فالتوبة هي وضوء النفس و طهورها، إنها جماله المفضي إلى بحر المحبة الإلهي !
و التوبة توبتان :
الأولى: توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، التي لا تكون إلا بعد مقام اليقظة، يقظة الإنسان من غفلته، فيشتاق إلى لحظة سعيدة مع الطاهرين، فيقرر بدء المصالحة مع الله؛ و ذلك أول الدخول إلى مقام (الإرادة)، مع قافلة الصالحين؛ سواء كان ذلك توبة من كفر صريح، أو من معصية دائمة.
و شروطها ثلاثة: و هي الإقلاع عن المعصية، و الندم على فعلها، و العزم على عدم العودة إليها.
و الثانية: توبة العبد المستقيم السالك إلى الله، فيصيبه القبض بعد البسط، و ينتبه إلى ما به من أذى، فيجأر فاراًّ إلى الله. فهم هنا إذن المؤمنون (التائبون) باستمرار.. المجددون لتوبتهم بلا انقطاع.
إن التوبة حسنة بنفسها عظيمة ! و ذلك لأنها تجمع خصالاً تعبدية شتى:
فالتوبة توحيد: فالتائب عائد إلى الله أولاً، ثم هو عائد إلى الله وحده. إذ لا ملجأ منه إلا إليه. و ذلك توحيده في إلهيته، و ربوبيته، و أسمائه و صفاته تعالى.
و التوبة استغفار: إذ هي منزل، أو مقام، و الاستغفار بابها، أو مفتاحها !
و التوبة تسبيح: لأنك إذ تستغفر الله و تتوب إليه، تفرده في عليائه موحداً لذاته و صفاته و ذلك في حد ذاته تنزيه له سبحانه أن يشاركه أحد في صفة أو أمر !
و التوبة دعاء: لأن بابها الاستغفار؛ فهي دعاء بما للكلمة من معنىً.
و تاج التوبة أنها معرفة بالله، قائمة على نور المشاهدة، و ألطاف التجلي !
فعندما تصل ربك يَصِلك، و تحبه فيحبك، و تقترب منه فيقربك ! و ترى ذلك حقاًّ و تشاهد جماله ذوقاً ووجداناً؛ تكون قد عرفت الله، و عرفت كرمه العظيم.
فأن تتوب إلى الله يعني أنك انطلقت عبر مدارج الإقلاع؛ حتى إذا بدأت مقدمة الطائرة في الارتفاع في الجو كانت لك منزلة أخرى ! إنها منزلة الخوف و الرجاء.
المشهد الثاني : في جمالية الخوف و الرجاء.
الخوف و الرجاء كجناحي الطائر، إذا استوى الطير و تم طيرانه. و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص؛ فهما وجهان لعملة واحدة؛ و كل صور الخوف و الرجاء أوصاف لحركة المحبة الرائحة إلى الله.
و الأصل في الدين هو غلبة الرجاء، و إنما الخوف خادم له، فخوف يقود إلى الجنة ليس خوفاً بمعناه المَرَضِي، و إنما هو خوف باطنه سرور، فالتخويف الإلهي هو تخويف تحبيب و إشفاق و تربية، قصد الوصول بالعباد إلى شاطئ التقوى و الأمان؛ و هو معنى الرجاء في نهاية المطاف ! فهذا الخوف له لذة العبادة لله الواحد القهار، خوف المحب من محبوبه !
أما الرجاء فيكون على حسب قوة المعرفة بالله و أسمائه و صفاته، و على حسب المحبة و قوتها أيضا، و لولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب و الجوارح.
المشهد الثالث : في جمالية المحبة.
منزلة المحبة هي أشرف منازل العبودية، و أصدقها ترجمة لشهادة: أن ( لا إله إلا الله )؛ ذلك أنها ترفع العبد إلى شهود العبودية.
و المحبة هي ميل القلوب، بل إن المحبة لا توصف بأظهر من المحبة، لأنها أمر ذوقي وجداني شعوري، و حيث يميل القلب فإنه لا يجد مشقة في السير.
و بقدر ما يقبل العبد على ربه خاشعاً يقبل عليه ربه بالتسديد و التأييد، حتى يحبه، فيسبغ عليه من نعم التجليات أنوار الرضا و السكينة و الجمال. فيخرج العبد بذلك من مشاهدة الأعمال إلى مشاهدة ربه ! إذ يَشعر بآثار الأعمال الجميلة على قلبه ووجدانه، فيجد لها حينئذ لذة و راحة لا توصف. فتكون التكاليف الشرعية عندها هي التي تحمل العبد لا هو الذي يحملها !
و القلوب هي آنية الرحمن، تعكس أنواره، و تفيض بجماله، و أحبها إلى الله أرقها و ألينها ! ذلك فعل الحب؛ إذا خالط قلباً عَطَفَه ليونة و رقةً حتى يذل !
و المحبة تبدأ بمنزلة التوبة، ثم تورق بتحقيق التوحيد، فمازالت تترقى حتى تصل لدرجة ( الخُلَّة )، و هي التفريغ التام للقلب مما سوى حب الله، و هي مرتبة انفرد بها الخليلان: سيدنا إبراهيم و سيدنا محمد، عليهما و على آلهما الصلاة و السلام ! و ( الخُلَّة ) منصب لا يقبل الشركة و لا القسمة !
و بين منزلة التوبة و الخُلَّة منازل، أدناها ( محبة الرجاء )، و أعلاها ( محبة الصِّدِّيقِيَّة ) التي هي الكمال في التصفية التعبدية حتى أعلى مراتب المشاهدة الإحسانية ! و بين الضفتين من بحار المحبة مراتب متعددة بتعدد الاستعدادات الفطرية و الإمكانات البشرية !
و( الاقتراب و التقرب ) هو طريق المحبة، أي عمران الوقت بالأعمال، حسب ما يناسب الوقت من فريضة أو نافلة، أو شيء من العمل الصالح، بدءا بكل صور ( التخلي ) من اجتناب للمنهيات و المنكرات، و كل صور ( التحلي )، من قراءة القرآن، و ذكر الله تعالى على كل حال ..إلخ
و للحصول على موجدة ( التقرب ) لابد من مجاهدة النفس بهذه الأعمال، تذللا و تضرعا إليه تعالى؛ و أفضل الأعمال أركان الإسلام و فرائضه، تم تليها نوافل الخيرات الصالحات، و أن تكون متقربا ! أي أنك تذوق طعم المحبة، فتترقى إلى منزلة الولاية، إذ أن الولاء حب !
و الإحسان أعلى مراتب ( التقرب )، فهو جمع بين ظاهر أعمال الدين و باطنها، إنه الصدق إذن !
فمنزلة المحبة إذن لهي صحبة الملأ الأعلى في السماء، و عنوان القبول في الأرض ! ذلك هو الإسلام دين المحبة العليا !
خاتمة المشاهد.
إن جمالية الدين راجعة إلى ما بُنِيَ عليه الإسلام من معاني المحبة و الخير للناس.. فيكون التدين الأجمل و الأحسن، هو ذلك الذي يصدر عن قلب مشبوب بالشوق إلى الله ! فجمال الروح هو الأصل في جمال الوجود كله !
فرغ من تلخيصه و الاعتناء به

أبو عبد الرحمن يونس ابن المبارك
المالكي البيضاوي
و قد وافق تمام تصحيحه – بسطات،
من حواضر المغرب الأقصى – يوم الخميس
10 صفر 1433 هجرية
موافق ل 25 يناير 2012

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More