Video

ضع بريدك الالكتروني

مدعوم منFeedBurner

قران يتلى اناء الليل واطراف النهار

طريق التوبة في الهاتف النقال

السبت، 6 أبريل 2013

من أنت أيها الإنسان؟


أ.د. فريد الأنصاري

من أنت..؟ أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة،
ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال، تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة "من أنا؟" و"من أنت؟" ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح! ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!
أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض، وهي قصة مثيرة ومريرة!

القرآن يعرّف الأنسان بنفسه
ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾(العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان -بَعْدُ- في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(الإنسان:1-3) وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾(السجدة:6-9).
ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان -بما هو عدو للإنسان- هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه، بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرِّفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده، حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه، ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه.

الإنسان بين صراع الحق والباطل
ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن. فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار! قال عز وجل حكايةً عن إبليس: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾(الإسراء:62-65). من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصة مع القرآن، وقصة مع الشيطان.
فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! ارْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي. تمضي جادةً غير لاهية -كما أُمِرَتْ- إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها ولم يبق بين يديك سوى هذا "الكتاب"!؟
فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم، وأنى تجدها إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة -لكل نفس في نفسها- علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(الإسراء:9-10).
نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحيى الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحوِّل مجرى التاريخ. وكل ذلك كان -عندما كان- بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان على يد أي كان من الناس، بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته، وتلك هي القضية.
ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق -كل الخلق- عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟

حبل الله الممدود من السماء
ألم يقل الله في القرآن عن القرآن بالنص الواضح القاطع: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم إن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد. فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه ثم قال: "أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالو: بلى، قال: "إن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً" (رواه ابن حبان والبيهقي). ومثله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم بصيغة أخرى: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (رواه الطبري). تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟
ألم يأن للمسلمين -وأهل الشأنِ الدَّعَوِي منهم خاصة- أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات والعلامات؟ أليس الله جل ثناؤه هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو جل وعلا رب كل شيء ومليكه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت، ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره، ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه!؟ أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون؟ ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(فصلت:11)، ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده، أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان أن يصارع الهرم والموت، ولكن هيهات هيهات!
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جميع الخلق، كافرهم ومؤمنهم.

البعث القرآني
يولد الإنسان يوما ما، وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل، فكان البدءُ هو آية الختام. هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(الرحمن:26-27).
ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن، ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا. فوا أسفاه على هذا الإنسان، ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين، كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم، ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(يس:30).
إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية، فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس، وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري طيورا حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو، روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات، فتحيا من جديد. وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد، قال جل ثناؤه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾(الشورى:52-53).

مسؤولية الإنسان الوجودية
من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم، نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير، النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾(الأنبياء:97). وقريبا جدا -واحسرتاه!- تنفجر به الأرض والسماوات، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(الأنبياء:104).
ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص، إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قرارا واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى، وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا، ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة، آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً عسى أن يكونوا من المهتدين. وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري، قال الحقُّ جل وعلا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(الأنعام:104).
من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا، قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية -قولا وفعلا وتقريرا- إلا تفسيرا للقرآن العظيم. وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين في وصفه عليه الصلاة والسلام لما سئلت عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: "كان خُلُقُه القرآن" (رواه مسلم). ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب.

التّمسيك بالكتاب وإقامُ الصلاة
نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله -كما أمر الله- نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح، وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما، وأن لا إمكان لكل ذلك -صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً- إلا بالقرآن المجيد. وهو قول الحق -جل ثناؤه- في آية عجيبة، آية ذات علامات -لمن يقرأ العلامات- ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾(الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين، هكذا: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾. وإن تلك لآية، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آل عمران:79). وقد قُرِئَتْ: ﴿تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ و﴿تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالة على الله، وراسمة لطريق التعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾.

مفهوم القرآن
ولنسأل الآن ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله، بل الكون كله..؟ أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه "كلام الله"، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: "القرآن كلام الله". هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا..
الله جل جلاله خالق الكون كله.. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟ طبعا لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء السماء الدنيا، الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرة وعلما.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان، فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(طه:13). أيّ وجدان وأيّ قلب يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟ اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف، وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر:21)، وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾(ص:18-19)، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأعراف:143).
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عل، أي من فوق، لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة. إنه رب الكون.. فتدبر: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطا بالكون كله، متحدثا عن كثير من عجائبه. قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾(الواقعة:75-82). سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.

تالي القرآن متصل ببحر الغيب
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم خلقا، وأمرا، وعلما، وقدرة، وإبداعا. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾(المزمل:5). ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الفرقان:5-6). وإنه لرد عميق جدا. ومن هنا جاء متحدثا عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾(الكهف:54). وقال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:53-54).
فليس عجبا أن يكون تالي القرآن متصلا ببحر الغيب، ومأجورا بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم. أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن يكفيه ذلك دلالة وأيّ دلالة، ويكفيه ذلك عظمة وأيّ عظمة. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (رواه الترمذي).
ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وَارْقَ، ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها"(رواه أحمد والترمذي)، وقال أيضا: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب، حَلِّهِ، فيُلْبَسُ تاجَ الكرامة، ثم يقول: يا رب زِدْهُ، فيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول: يا رب اِرْضَ عنه، فيرضى عنه، فيقول: اِقرأ، وَارْقَ، ويُزَادُ بكل آية حسنة" (رواه الترمذي)، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الجمعة:4).
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين. قال صلى الله عليه وسلم في خصوص هذا المعنى من حديث سبق: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض". وقال في مثل ذلك أيضا: "أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، و لن تضلوا بعده أبدا" (رواه الطبراني). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم: "أبشروا.. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالوا: بلى، قال: "فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا".

أهل القرآن هم أهل الله
هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا، كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(آل عمران:29) سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماما كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء... إلخ. كل ذلك في وقت واحد -وهو تعالى فوق الزمان والمكان- لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحدا سواك. احذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله، وتدبر.. ثم أبصر!
قال جل جلاله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمد:24). فتدبر..! ذلك هو القرآن، الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر، فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر.. إن فيه كل ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن عليك بالقرآن، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك تكن من "أهل الله" كما في التعبير النبوي الصحيح. قال عليه الصلاة والسلام: "إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته‌" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).

فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا، هو "من أنا؟". نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟

السبت، 23 مارس 2013

الشيخ فريد الانصاري - تحديات الاسرة المسلمة في المهجر


الشيخ فريد الانصاري - تحديات الاسرة المسلمة في المهجر

الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة . ذ فريد الانصاري

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة . ذ فريد الانصاري
الجزء الاول
.......




الجزء الثاني

الجزء الثالث

لأيام العشر من شهر ذي الحجة فضلها ، خصائصها ، الدروس التربوية المستفادة منها

لأيام العشر من شهر ذي الحجة
فضلها ، خصائصها ،
الدروس التربوية المستفادة منها
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
 
* مقدمة :
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام ، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى بشيراً ونذيراً ، وسراجاً مُنيراً للناس كافةً ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين ،            أما بعد ؛ 

الثلاثاء، 24 أبريل 2012

كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح " + تلخيص


كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح " 


كتاب "جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح "
للشيخ "فريد الأنصاري" رحمه الله


مقدمة : الكتاب 


بأي لغة أستطيع تقديم الجمال؟ وها الكلمات كسيرة حسيرة، في زمن تصدرت فيه جمالية الأشباح على حساب جمالية الأرواح، وغطت الأصباغ الكاذبة جمال الفطرة الصادقة، فنصر الناس التمثال على الطبيعة، وضلت الحقيقة في الظلمات....
ملخص الكتاب :



تلخيص كتاب جمالية الدين : معارج القلب إلى حياة الروح.

للشيخ الدكتور فريد الأنصاري.


لخصه و اعتنى به " أبو عبد الرحمن يونس ابن المبارك المالكي البيضاوي "


مقدمة :


عندما نقول جمالية الدين فإننا نعني أن الله عز و جل الذي جعل الدين جميلاً، قصد أن يكون التدين جميلاً أيضاً، قصداً تشريعياً أصيلاً، إذ قُصِد منه ذلك ابتداءً، و ليس صُدفة و اتفاقاً.
و الجمال متعلق بالشكل و المضمون معاً، ذلك أن الله عز و جل فتح أمام البشرية معرضين للجمال، أولهما : هذا القرآن الكريم المجيد، و ما يتضمنه من حقائق إيمانية، تصل الإنسان بمنابع الجمال الحق، و مصدر النور الأعلى، و ثانيهما : هذا العالم الطبيعي الكوني، امتدادا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و ما يعكسه من شؤون الربوبية العليا، و أنوار الأسماء الحسنى.
و من هنا فجمالية الدين مفهوم يغطي علاقات المسلم مع ربه، و مع الإنسان، ثم علاقته مع البيئة أو الكون و الطبيعة، و كل ذلك يدخل تحت مفهوم ( العبادة ) الذي هو غاية الغايات من الخلق و التكوين، و لذلك فهذه الجمالية مفهوم مبثوث في أصول الدين و فروعه.
و جمالية الدينية في الحقيقة هي : ( الإيمان ) الذي يسكن نورُه القلبَ، فتُجَمِّل الأفعال و التصرفات التي هي فعل ( الإسلام )، ثم تترقى هذه في مراتب التَّجَمُل؛ لتصل درجة ( الاحسان )، إذ أن هذا الأخير هو عنوان الجمال في الدين، فنجد إذا أن التدين هو تَمَثُّلُ قيم الجمال، و التزين بأنوارها في السلوك و الوجدان.
و منه غاية هذه الرسالة هي تقرير، من جهة، أن الجمال جوهر أصيل في الدين، فخطاب الوحي قام على وضع مقاييس الجمال، و بيَّن منهاج التجمل بالدين؛ و من جهة أخرى، أنه قصد مبدئي أصيل من الدين.
تمهيد : في مفهوم ( الجمالية ) بين الإسلام و الفلسفة الغربية.
الجمالية هو علم يبحث في معنى الجمال من حيث مفهومه، و ماهيته، و مقاييسه، و مقاصده. فالجمالية في الشيء تعني أن الجمال فيه حقيقة جوهرية، و غاية مقصدية، فما وُجِد إلا ليكون جميلاً.
و الجمال في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو قيمة دينية : عقدية و تشريعية، أو من حيث هو مفهوم كوني، و كذا من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية.
و الفرق في الجمالية من مفهومَيْها الغربي و الإسلامي كالفرق بين الطبيعة و التمثال، أو بين الحقيقة و الخيال، إذ لم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة قارة في متحف ( اللوفر )، بل حيةً يشكلها بإبداعه اليومي بين ركوع و سجود، و طواف و سعي، أو بين صوم و تبتل، و انقطاع يصله كليًّا بالملأ الأعلى.
حول مفهوم ( الجمال ) في الفكر الغربي:
أرجع سقراط كل قيم الجمال إلى النفس، فجعله جمالا باطنيا يرجع إلى جمال النفس الفاضلة.
أما أفلاطون فيرى أن الجمال يتحدد في الجمال الإلهي و ذلك في وحدة صورته، و قد عرَّفه بانه موضوع محبة النفس كما أنه ينتمي إلى عالم الحقائق العقلية.
و قد نحا هيجل و كانط نفس المنحى عندما أرجعوا الجمال إلى مظاهر تشكلات الروح المتمثلة في كل ظاهرة طبيعية أو مادية أو نُظُم إنسانية، أو فكرية، و غاية هذه الروح أن تعي ذاتها معتمدة على الفن و الدين و الفلسفة، فأنتج ما يُعرَف بالإستطيقا التي هي إبداع الروح، و خلق الوعي، و نتاج الحرية.
أما كامي و سارتر فقد ربطوا الجمال بالتمرد، فالفن على حد زعمهم يَبرُز في رفض الإنسان أن يكون على ما هو عليه، فيُعِيد تشكيل العالم و صياغته من خلال عمله الفني، و قد تبنى العالم الغربي هذه العبثية ( الجمالية ) لملاءمة ظروف اهتزاز القيم فيه، و توجهاته المتمردة على كل شيء.
حول مفهوم ( الجمال ) في الإسلام من الترتيل إلى التشكيل:
الإنسان جميل ! بل هو أجمل مخلوق في الأرض ! فالله سبحانه و تعالى قد خلق الإنسان في أجمل صورة و أحسنها !
ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلاً، و حسَّنَه تحسيناً.. عساه يكون في تدينه حسناً جميلاً ! فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية !
فهذا الكون هو قصرك الزاهي أيها الإنسان ! محاطاً بكل آيات التسخير، لتصريف العمر كأعلى ما يكون الذوق، و كأجمل ما تكون الحياة ! فما يكون من المؤمن حينئذ إلا السجود لمن أفاض على الكون بهذا الجمال كله ! الجمال الحي المتجدد !
كما نلمس جماليات القرآن الكريم من السور و الآيات المشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني، حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل !
إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة، الساحرة ! و أرسل الرسل بالجمال، ليتدين الناس على ذلك الوازن و بتلك المقاييس، مما يحول إلى ان الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلاً و مضموناً، مبنىً و معنىً، رسماً و وجداناً.
و الجمال الإيماني متمثل في أن تحب الإيمان ذاته مما يعني أن الدين سكن هواك، و الحب لا يسكن قلباً إلا إذا شاهد مباهج الجمال التي تسحره و تأخذ بمجامعه ! فليكن الدين إذن : سيراً إلى الله في مواكب الجمال !
و قد جمع الحق سبحانه في مفهوم الدين بين جمال الدين و جمال الدنيا، كما رقَّى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذوق على مستوى التصرف و السلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، و لكن أيضاً في مجال الدعوة و الإرشاد.
و من هنا نجد أن أسس الجمالية في الإسلام تقوم على أركان ثلاثة، هي : الحكمة و المتعة و العبادة.
فأما الحكمة : فما من جمال إلا و هو رسالة ناطقة بمعنى معين، و منه فاستعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي لا تنتج إلا أروع التعابير اللغوية، و الرمزية، على جميع المستويات البشرية و الحيوانية و الطبيعية عموماً، إذ هي في نهاية المطاف ضرب من قوانين التوازن في الحياة، فما الإحساس الجمالي إلا وسيلة وجودية لاستمراره و توازنه.
و أما المتعة و الإمتاع سواء في ذلك ما هو على المستوى الحسي، أو ما هو على المستوى العاطفي و الوجداني، فحاجة قائمة يسعى الإنسان لإشباعها.
و تعتبر العبادة سلوك وجداني جميل محض، و ذلك بما تبعثه في النفس من أنس و شعور بالاستمتاع عند السير إلى الله في ضوء جمال أسمائه الحسنى، فهي الركن الغائي من خلق الجمال نفسه، بل هو غاية الغايات من الخلق كله.
الإشراق الأول في جمالية التوحيد.
المشهد الأول : العقيدة الإسلامية بين جمال القرآن، و تقسيمات علم الكلام.
إن عقيدة الإسلام لمسة تربوية ذات أثر روحي عميق على الوجدان و السلوك، كما عرضها القرآن آيات بينات و محكمات، و ليست كما صورها علم الكلام بشتى مدارسه و مذاهبه، فالتعبير عن حقيقة الذات الإلهية لا يكون على كمال صدقه، جلالا و جمالا، إلا إذا كان بما عبر الله به عن ذاته سبحانه و صفاته. و من هنا كان التوقيف في مجال التعبير العقدي في الإسلام.
إن السر الذي تتضمنه عقيدة ( لا إله إلا الله ) يَكْمُن في ( جمالها )، الذي لا يُدْرَك إلا بحاسة القلب، و قد ضاع صفاء الدين و جماله السماوي في غبار التأويلات، و رسوم التقسيمات، فضللنا عن أن عقيدتنا جميلة.
( لا إله إلا الله ) كلمة ( قلبية ) مدارها على وصف حال، و الاعتراف بذوق صفات الكمال و الجلال ! إنه تعبير عن الخضوع الوجداني التام لله.
فكلمة ( الله ) هو لفظ الجلال، الاسم العَلَم على الذات الإلهية، الاسم الجامع لكل الأسماء الحسنى و الصفات الإلهية العلا. و لفظ ( الله ) فرد في اللغة، فلا يجمع و لا يتعدد.
و كلمة ( إله ) في سياقها اللغوي و الوجداني هو ما يَشُوق القلب، و يأخذ بمجامع الوجدان، إلى درجة الانقياد له و الخضوع.
فـ ( لا إله إلا الله ) إذن تُعتبر تعبيرا عما يجده في قلب العبد من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، و لا مرهوب إلا الله، و لا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله، رغبة و رهبة و شوقا و محبة.
فالإسلام ما هو إلا الخضوع لله رب العالمين، و حقيقة كون المسلم عبدا هي الحقيقة التي تغيب عن أكثر المسلمين، فيحدث بسبب ذلك الانحراف بشتى ألوانه و أشكاله، و العبد مسلوب الإرادة ! بالمعنى الوجداني، إذ هو واقف على العتبة ينتظر الأمر و النهي بشوق المحب، ليبادر إلى التنفيذ دون سؤال: علامَ و لِمَهْ؟
و من هنا فعقيدة الإسلام تعتبر ميثاق المحبة بين الله و عباده ! أو هي دستور الإسلام ! و المحبة لا تقوم بقلب العبد الصادق إلا على جناحي الخوف و الرجاء، و ما تفرع عن ذلك من معاني الرَّغَبِ و الرَّهَبِ !
و نحن في حاجة ماسَّة و مستعجلة، لإعادة قراءة عقيدة السلف الصالح من مصادرها الأولى ! فالمفكر السلفي المعاصر يقرأ تراثه بمنهج تجزيئي إسقاطي، فكونه تجزيئي إذ يقرؤه بعين واحدة، فلا يتصور حقيقته في شموليته الكلية. و إسقاطيا فلأنه استعمل تعبيرات هذا التراث للتعبير عن مشكلات العصر النفسية و السياسية بصورة حرفية ! دون مراعاة الفروق بين الثوابت و المتغيرات، سواء منها ما تعلق بالنصوص أو بتحقيق المناطات ! و في ذلك ما فيه من الشطط العلمي و الانحراف المنهجي !
المشهد الثاني: في جمالية التعريف القرآني بالله
إذا كانت ( لا إله إلا الله ) شهادة على ما في القلب، من تعلق بالله وحده، فإنه لا بد أن يكون ذلك مبنيًّا على معرفة الله ربًّا ! أي اعتقاد عقيدة الإسلام فيما يتعلق بذات الله و صفاته سبحانه و تعالى، فالعلم بالله يورث خشيته سبحانه و محبته.
و الإيمان بالله من حيث هو تعالى ( إله ) سبب الإيمان الحقيقي بالله من حيث هو ( رب )، أي سيدٌ أَوحَد لهذا الكون، فالربوبية إذن جالبة للمحبة، فأي دعوة قرآنية إلى التوحيد و الإيمان، تَجِدْ سياقها قائما على عرض خصائص الربوبية، بشكل واضح لا غبش فيه.
الله ربًّا و جماله يفيض من بهاء ذاته تعالى و صفاته، صفات الجمال و الجلال ! فهو تعالى هو الأول بلا ابتداء، و الآخر بلا انتهاء، سبحانه و تعالى علوًّا كبيرًّا، و أول نعمة إلهية ظاهرة علينا هي خلق آدم عليه السلام ثم توالت بعد ذلك النعم تترى، و لذلك فإن القرآن الكريم افتتح بالحمد لرب العالمين، و تمجيد أسمائه الحسنى، ثم بعد ذلك ثنى بالعبادة، التي هي نتيجة الربوبية، و قد طلب الله منا إحصاء أسمائه و الدعاء بها، أي نوحده في ألوهيته تعالى بها ! و ذلك باب العبادة.
و جمال الربوبية يتجلى في جمال الصنعة، و كمال الخلق، و تدفق الإنعام، و الفيض على العالمين بالحياة.. إلخ، فهو سبحانه بهر القلوب المحبة للجمال، فخضعت له عابدة متبتلة في محاريب الإيمان، مقرة أنه : ( لا إله إلا الله ) ! إن المحب الذي فني في المحبوب إنما حصل مل حصل، لما رآه في محبوبه من خصال الجمال و الجلال، فما أن أدرك العبد ما تقتضيه هذه الأسماء من صفات الجمال و الجلال، لزم أن يكون أول العابدين لله، و من هنا إذن كانت معرفة الربوبية مورِثة لمحبة الله، أي لعبادته.
فالعبادة إذن : هي التعبير الظاهر عما وجده المسلم في الباطن، إذ شهد أن لا إله إلا الله. إنها تعبير المحب عما وجد من حب ! و أي محب يستطيع الكتمان؟
المشهد الثالث: في جمالية التفكر الإيماني
من أسرار هذا الدين و لطائفه أن باب عقيدته هو التفكر ! فالله تعالى خاطب الكفار بالقيام، و التفرغ لشأنه، قبل الإيمان به، و ذلك بالخلوة به وحده سبحانه، للوصول إلى حقيقة الإسلام،
و التفكر فعل وجداني في العمق، فما العقل إلا آلة تلتقط الحقائق، و تعقلها، و لكنها لا تتخذ القرار إلا عن طريق القلب، الذي إن كان محجوبا بحجب المادة و الكثرة، لا يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. و هذا التفكر لا تنجح عمليته إلا بالتفرغ لله في الخلوة، الذي يتيح للقلب أن يتفاعل في صفاء مع معطيات الفكر، و يتواجد متلذذاً بمواجيد الشعور بمعية الله، و حقائق الكون الكبرى.
و التفكر يقود إلى كمال جمال الدين بالدفء الحاصل عند الشعور بالانسجام مع سائر الخلق السيَّار، كلٌّ في سربه و فلكه، فتجد بذاك ذوق الأنس، و يغمرك الحب الصادق ليُشعرك ذلة اللذة و المتعة العليا، و الشعور بالراحة في سبيل رضا المحبوب.
و للدخول إلى ملكوت الله، اسلك باب التفكر بوجدان المحبة الكبرى، فسترى إذن نعمة الخلق، أعظم بها من نعمة، و لمسة الحياة التي هي النعمة الكبرى بعد الخلق، كما أن التفكر في جمال الإحسان الرباني يُعتبر سر المحبة، و حين تشعر بالنعمة المسداة إليك تجد نفسك مطوقاً بحقها في الشكر، و لكنها نعمة أكبر بكثير من أن تحصى أو تحصر، فيمتلك القلبَ الشعورُ بالعجز و الذلة و الخضوع التام، و تلك هي ( لا إله إلا الله ).و أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحياة.
الإشراق الثاني في جمالية عقيدة اليوم الآخر.
المشهد الأول : في جمالية العمر.
العمر ذلك الامتداد الزماني الحاد المحدود، الذي يحد فترة حياة الإنسان، من الولادة إلى الممات، و هو قصير كله.
و الزمان الكوني نوعان : الزمان الأمري و الزمان الملائكي؛ فـ ( الزمان الأمري ): هو المشار إليه في قوله تعالى : يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ السجدة:5، و ( الزمان الملائكي ): هو المشار إليه في قوله سبحانه : تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ المعارج :4، كما يتجلى في صورة ( الزمان العِنْدِيِّ ) : و هو زمان الملائكة العندية. ثم الزمان الأخروي: و هو الزمان الخالد السرمدي الذي لا ينتهي أبداً !
فالزمن نسبي ! و تلك هي حقيقة الأعمار. و لكن شتان بين عمر و عمر، باعتبار العرض و الضيق؛ فالإنسان ينتبه إلى العمر من حيث الطول المتعلق بالزمن ( الماضي و الحاضر و المستقبل ) و لا ينتبه إلى العرض الذي يتعلق بالأعمال و المنجزات خلال كل فترة من فترات الزمن، و هكذا يبقى يخطو على عرض الطريق حتى يستوعب كل عرضها؛ فهو يسير طولاً و عرضاً، و تلك هي ( بركة العمر ) المرجوة في الأدعية المأثورة.
و قد ذم الله الحياة الدنيا، من حيث هي طول يُتلهف فيه على المتع الزائلة، عكس الجنة التي هي زمن خالد، فأنت تعيش اللحظة الواحدة مرات عديدة لا تنقضي أبداً ! كما أن نعمها الوفيرة لا تستنفد أبدا ! فذلك هو العرض ذو المعاني الجميلة.
و الجميل في الأمر أن العرض لا ينقضي بوفاة الإنسان؛ بل يمتد حتى بعد وفاته !
ثم إن الإيمان باليوم الآخر يشعر المسلم بأن الموت إنما هو معبر إليها، فلا يحس في وجدانه بأنه ينتهي بالموت؛ فيعيش الحياة بذوق آخر، ملؤه العمل و الأمل في أن تكون أخراه أفضل من دنياه.
المشهد الثاني : في جمالية الإيمان بالغيب.
تقوم العقيدة الإسلامية على مبدأ الإيمان بالغيب. و الغيب في معناه اللغوي: هو كل واقع حقيقي مجهول، فهو إذن ( وجود ) لكنه مُتَوَار عن المشاهدة.
و عالم الغيب في القرآن يمتد من عالم الشهادة، مما لا يعلمه الإنسان، جزئيًّا أو كليًّا؛ إلى ما وراء عالم الشهادة من العوالم الروحانية؛ بما يتضمنه من أمور واقعة في علم الله، و إن لم تكن قد وقعت بالفعل في الوجود المادي، مما هو مسطَر في أصول الاعتقاد الإسلامي.
فالكون كله غيب مطلق، و ما يعلم الإنسان منه شيئاً إلا بإذن الله، إما بواسطة الإلهام، أو طريق البحث العلمي، أو عن طريق الوحي.
إن مفهوم ( الغيب ) في الإسلام هو الذي يمنح الحياة أنداها و جمالها. و لذلك كان الإحساس في الدين : ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فإذا كان العبد قد استشعر الوجود الإلهي استشعار الرائي لحقيقته، فقد استشعر من باب أولى الوجود الغيبي، من العالم الروحاني العلوي، و الأخروي، استشعار الصحبة و المعية.
فهذا القرآن قام على مبدأ الغيب؛ و من هنا فإن أنواره إنما تشرق بالقلوب التي لها استعداد للتلقي الغيبي ! فالقلب وحده هو الأجدر لتلقي حقائق الغيب بالإيمان و التسليم، و قد بني عليه الكسب البشري التعبدي كله.
ثم إن الله جعل في الإيمان بالغيب متعة و لذة، لا تفضلها متعة و لا لذة من ملذات الحياة الدنيا ! تريح العقل من الشك، فترى عالم الروح عين اليقين.
المشهد الثالث : في جمالية الموت.
حقيقة الموت من حيث الجوهر حقيقة ذوقية لا تدرك ماهيتها إلا بتجربتها على الذات؛ و بمجرد حصول الذوق، تدرك الحقيقة كاملة، و تنزاح عنك الحُجُب.
و الموت حقيقة مقلقة، للمسلم إزاءها حيرته الخاصة ! حيرة العبد المشوق بمعرفة غيب الله في حياة البرزخ، و سر قدرته العظيمة بعد ذلك في إحياء الموات ! و لذلك فهي تورث صاحبها لذة و متعة، و خشوعاً بين يدي إلهه ! لا قلقاً و اضطراباً و تمرداً !
فلجمال الموت في الإسلام متعة الوصول ! إذ حياة المؤمن كلها أمناً و سلاماً في الدنيا و في الآخرة. و إنما هذه بالنسبة إليه استمرار لتلك، من حيث الامتداد الوجودي، فلا فناء و لا انقراض.
فالموت إذن في عقيدة الإسلام، هو لحظة من الجمال الروحي، تدخل بالسرور على أهل الشوق و المحبة، من الصديقين و الشهداء و الصالحين ! فكأنه باب من أبواب الجنة !
المشهد الرابع : في جمالية اليوم الآخر.
الحياة الآخرة هذا المقابل للحياة الدنيا، إذ هي وحدها هي الحياة، تبدأ بتغير أوضاع الكون، و إعادة خلقه من جديد؛ يملؤها رغبةً و رهبةً؛ و هو شيء رهيب، لا ينوب عن تصوير رهبته إلا أن تراه حقاًّ !! إذ ترى أهوال يوم القيامة، فيزداد مقام الخوف و الرجاء، ثم يتجلى ربك للقضاء بين خلقه، و تحلُّ اللحظة الفاصلة بين الحق و الباطل، فيتشكل الناس فريقين، كل يمضي عكس جهة الآخر، فيفترق بتفرقهم مقام الخوف و الرجاء إلى الأبد !
و من جمال اليوم الآخر في وجدان المؤمن أنه يوم موعد جميل.. موعد مع قافلة السالكين إلى الله، عبر قافلة النور الضاربة في الزمان الغابر، على امتداد تاريخ البشرية كلها ! كما له جمالية الرحيل إلى بلاد الله الخضراء: جنة الرضوان.. هناك حيث تلقى محمداً و صحبه، و قافلة الأحبة !
ثم إن في اليوم الآخر لموعداً آخر، إنه رؤية الله ! رؤية يستمد منها العابدون جمالهم، و يستدرُّون بها أنوارهم ! و يكتسبون من تجلياتها حياة الخالدين !
الإشراق الثالث في جمالية العبادة.
المشهد الأول : في جمالية ( الانتساب ) التعبدي.
العبادة: هي عنوان الجمال في الإسلام، و شعار المحبة. و إذا أحب الله الإنسان خاطبه بلفظ: ( عبدي ) أو ( عبادي ).. فنسبه الله إليه نسبة خصوص و إضافة.
و حقيقة العبادة شعور وجداني قبل أن تكون أعمالاً مادية ! و إحساس بحب من يوجه إليه العمل وهو الله تعالى، لا ( ضريبة ) يؤديها المرء وهو كاره ! و من هنا فالعبادة كانت رغبةً قبل أن تكون رهبةً، مما يجعلها تحمل ظلالاً روحيةً هادئةً، يرتقي بها الإنسان إلى مقام العطف الرباني و التضييف الرحماني، فيحمل صفة الانتساب الإيماني.
و النسبة في الخطاب القرآني على ثلاثة أحوال :
الأولى: أن ينتسب إلى جِبِلَّته و طبيعته الخلقية، فيسميه ( الإنسان ) و ذلك في سياق الابتلاء، و تحميله مسؤولية و أمانة التكليف و الاستخلاف.
و الثانية: أن ينسبه إلى أبيه؛ فيسميه ( ابن آدم، و بني آدم ) و ذلك لضعف عزيمته و كثرة نسيانه.
و الثالثة: أن ينسبه إليه تعالى فيسميه ( عبداً، أو عبدي، و عبادي )، و هي سياق المحبة الإلهية العالية للعباد، إذ العبودية هي محبة متبادلة بين الرب الأعلى و المخلوق الأدنى !
فالمؤمن عاش ( عبداً ) لله في الدنيا، فكان له الستر الجميل، و القرب الجليل، في الدنيا و الآخرة؛ فـ ( العباد ) هم الآمنون السالمون بإذن الله.
المشهد الثاني : في جمالية الصلاة أم العبادات.
الدين هو العبادة، و العبادة هي الصلاة؛ و قد جعلها الله مواقيت لرموز التحولات الزمنية. فالفجر بدْأ و به تبدأ الحياة، وزوال الشمس بداية العد العكسي في عمر الإنسان، و بذلك فصلاة الظهر تشهد منتصف عمرك، و العصر ينذرك بقرب الأفول ! فتنتهي الأضواء إلى ظلمة القبر فيكون الغروب ! فكيفية موت الضوء يحيل على كيفية موت الحياة، فلا عودة للحظة ماتت، ثم ندلج إلى الله بالعشاء صلاة سارية؛ فكأن صلاتك للخمس هي صلاة للعمر كله ! تتناثر مهجتك بها إلى الله تعالى وقتا وقتا، فإن فاتك وقتك فقد خرجت عن مدارك، وفقدت جزءاً من عمرك.
و أول البدء في الصلاة تجمل بالوضوء، فذاك شرط المرور إلى عتبة الصلاة، و تدور الفصول من حر إلى قر، فيبقى الوضوء سراًّ من أسرار الجمال؛ و الدنيا ما هي إلا وسخ أو دَرَن لا يغسله إلا أريج الطهور ! فلتسبغوا الوضوء على المكاره إذن سادتي الأتقياء، فتلك سيم الجمال في وجوهكم، و أطرافكم، يوم تَرِدون على المصطفى صلى الله عليه و سلم، و هي سِيَم ليست لأحد من الأمم.
و تكون الصلاة ! مستقبلا القبلة الجامعة لشتات القلب و البصر، الكل حول قلب واحد؛ و ترتفع الأيدي المحجلة تجاه القبلة في تكبيرة الإحرام، لتفريغ البال من جميع الأحوال، إلا حال الفقر المرفوق بالشوق إلى الغني الحميد، ثم تتأدب بالتزام الصدر في وقفة العبد بين يدي الملك العظيم. ثم تشرق التجليات ! فتحج الأرواح من محاريبها خمس مرات في اليوم !
ثم ينفتح القلب بكلمات من نور آخر، فإذا اللحظة مناجاة بين الخالق و المخلوقات ! فيكيف لهذا البصر أن يمتد قيد أنملة نحو السماء، و الرب بجلاله قِبَلَه؟
هذا المسرى الربيعي إلى الله، رغبا في ينابيع الرحمة و المغفرة، ترسم خطوات النور الهادي إلى الرحمن.
الإشراق الرابع في جمالية منازل العبادة.
تمهيد : في معنى " المنازل " و " الأحوال "
من جماليات الدين أن العبد السالك إلى ربه، متنقل في عبادته بين " منازل "، أو " مقامات "، و متلذذ في مواجيده " بأحوال ".
و السير: إنما هو قطع العمر في عبادة الله، باحثا عن نفسه، كادحا إلى ربه ! لأن عنصره ( أي العمر ) الجوهري هو عنصر من السماء. و إذ يدرك المؤمن هذه الحقيقة يملأ قلبَه الشوقُ و الحنين إلى موطنه الأول.
إن العبادة إذن تقرب إلى الله شبراً شبراً. إنها رقي في السماء. و السماء طبقات و درجات. و كل عبد في طريقه إلى الله يترقى. أنها إذن منازل، أو (مقامات)، و من هنا كانت الجنة منازل و درجات، فكان الصالحون يجدُّون و يجتهدون في السير.
و الأحوال: هي ما يجده العبد في سيره إلى الله من أذواق للعبادة، ذات لذات و مواجيد متفاوتة، بين نشاط و فتور، و بين قبض و بسط.
و المقامات: هي مقام العبد بين يدي الله عز و جل، مثل التوبة، و الورع، و الزهد، و غير ذلك (...).
و لذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها؛ بينما الأحوال لا تستقر، فلا يدري المؤمن حتى يجد من نفسه ذوقاً ما، و الحال ذوق المقام؛ و المقام نتيجة العمل، فآل الجميع إلى العمل !
المشهد الأول : في جمالية التوبة.
منزل التوبة أول المنازل، و أوسطها و آخرها. فلا يفارقه العبد السالك، و لا يزال فيه إلى الممات؛ فالتوبة هي بداية العبد و نهايته؛ و هي أول باب يَلِجُه السالك في مسرى المحبة الدائم الاخضرار.
فالتوبة هي وضوء النفس و طهورها، إنها جماله المفضي إلى بحر المحبة الإلهي !
و التوبة توبتان :
الأولى: توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، التي لا تكون إلا بعد مقام اليقظة، يقظة الإنسان من غفلته، فيشتاق إلى لحظة سعيدة مع الطاهرين، فيقرر بدء المصالحة مع الله؛ و ذلك أول الدخول إلى مقام (الإرادة)، مع قافلة الصالحين؛ سواء كان ذلك توبة من كفر صريح، أو من معصية دائمة.
و شروطها ثلاثة: و هي الإقلاع عن المعصية، و الندم على فعلها، و العزم على عدم العودة إليها.
و الثانية: توبة العبد المستقيم السالك إلى الله، فيصيبه القبض بعد البسط، و ينتبه إلى ما به من أذى، فيجأر فاراًّ إلى الله. فهم هنا إذن المؤمنون (التائبون) باستمرار.. المجددون لتوبتهم بلا انقطاع.
إن التوبة حسنة بنفسها عظيمة ! و ذلك لأنها تجمع خصالاً تعبدية شتى:
فالتوبة توحيد: فالتائب عائد إلى الله أولاً، ثم هو عائد إلى الله وحده. إذ لا ملجأ منه إلا إليه. و ذلك توحيده في إلهيته، و ربوبيته، و أسمائه و صفاته تعالى.
و التوبة استغفار: إذ هي منزل، أو مقام، و الاستغفار بابها، أو مفتاحها !
و التوبة تسبيح: لأنك إذ تستغفر الله و تتوب إليه، تفرده في عليائه موحداً لذاته و صفاته و ذلك في حد ذاته تنزيه له سبحانه أن يشاركه أحد في صفة أو أمر !
و التوبة دعاء: لأن بابها الاستغفار؛ فهي دعاء بما للكلمة من معنىً.
و تاج التوبة أنها معرفة بالله، قائمة على نور المشاهدة، و ألطاف التجلي !
فعندما تصل ربك يَصِلك، و تحبه فيحبك، و تقترب منه فيقربك ! و ترى ذلك حقاًّ و تشاهد جماله ذوقاً ووجداناً؛ تكون قد عرفت الله، و عرفت كرمه العظيم.
فأن تتوب إلى الله يعني أنك انطلقت عبر مدارج الإقلاع؛ حتى إذا بدأت مقدمة الطائرة في الارتفاع في الجو كانت لك منزلة أخرى ! إنها منزلة الخوف و الرجاء.
المشهد الثاني : في جمالية الخوف و الرجاء.
الخوف و الرجاء كجناحي الطائر، إذا استوى الطير و تم طيرانه. و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص؛ فهما وجهان لعملة واحدة؛ و كل صور الخوف و الرجاء أوصاف لحركة المحبة الرائحة إلى الله.
و الأصل في الدين هو غلبة الرجاء، و إنما الخوف خادم له، فخوف يقود إلى الجنة ليس خوفاً بمعناه المَرَضِي، و إنما هو خوف باطنه سرور، فالتخويف الإلهي هو تخويف تحبيب و إشفاق و تربية، قصد الوصول بالعباد إلى شاطئ التقوى و الأمان؛ و هو معنى الرجاء في نهاية المطاف ! فهذا الخوف له لذة العبادة لله الواحد القهار، خوف المحب من محبوبه !
أما الرجاء فيكون على حسب قوة المعرفة بالله و أسمائه و صفاته، و على حسب المحبة و قوتها أيضا، و لولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب و الجوارح.
المشهد الثالث : في جمالية المحبة.
منزلة المحبة هي أشرف منازل العبودية، و أصدقها ترجمة لشهادة: أن ( لا إله إلا الله )؛ ذلك أنها ترفع العبد إلى شهود العبودية.
و المحبة هي ميل القلوب، بل إن المحبة لا توصف بأظهر من المحبة، لأنها أمر ذوقي وجداني شعوري، و حيث يميل القلب فإنه لا يجد مشقة في السير.
و بقدر ما يقبل العبد على ربه خاشعاً يقبل عليه ربه بالتسديد و التأييد، حتى يحبه، فيسبغ عليه من نعم التجليات أنوار الرضا و السكينة و الجمال. فيخرج العبد بذلك من مشاهدة الأعمال إلى مشاهدة ربه ! إذ يَشعر بآثار الأعمال الجميلة على قلبه ووجدانه، فيجد لها حينئذ لذة و راحة لا توصف. فتكون التكاليف الشرعية عندها هي التي تحمل العبد لا هو الذي يحملها !
و القلوب هي آنية الرحمن، تعكس أنواره، و تفيض بجماله، و أحبها إلى الله أرقها و ألينها ! ذلك فعل الحب؛ إذا خالط قلباً عَطَفَه ليونة و رقةً حتى يذل !
و المحبة تبدأ بمنزلة التوبة، ثم تورق بتحقيق التوحيد، فمازالت تترقى حتى تصل لدرجة ( الخُلَّة )، و هي التفريغ التام للقلب مما سوى حب الله، و هي مرتبة انفرد بها الخليلان: سيدنا إبراهيم و سيدنا محمد، عليهما و على آلهما الصلاة و السلام ! و ( الخُلَّة ) منصب لا يقبل الشركة و لا القسمة !
و بين منزلة التوبة و الخُلَّة منازل، أدناها ( محبة الرجاء )، و أعلاها ( محبة الصِّدِّيقِيَّة ) التي هي الكمال في التصفية التعبدية حتى أعلى مراتب المشاهدة الإحسانية ! و بين الضفتين من بحار المحبة مراتب متعددة بتعدد الاستعدادات الفطرية و الإمكانات البشرية !
و( الاقتراب و التقرب ) هو طريق المحبة، أي عمران الوقت بالأعمال، حسب ما يناسب الوقت من فريضة أو نافلة، أو شيء من العمل الصالح، بدءا بكل صور ( التخلي ) من اجتناب للمنهيات و المنكرات، و كل صور ( التحلي )، من قراءة القرآن، و ذكر الله تعالى على كل حال ..إلخ
و للحصول على موجدة ( التقرب ) لابد من مجاهدة النفس بهذه الأعمال، تذللا و تضرعا إليه تعالى؛ و أفضل الأعمال أركان الإسلام و فرائضه، تم تليها نوافل الخيرات الصالحات، و أن تكون متقربا ! أي أنك تذوق طعم المحبة، فتترقى إلى منزلة الولاية، إذ أن الولاء حب !
و الإحسان أعلى مراتب ( التقرب )، فهو جمع بين ظاهر أعمال الدين و باطنها، إنه الصدق إذن !
فمنزلة المحبة إذن لهي صحبة الملأ الأعلى في السماء، و عنوان القبول في الأرض ! ذلك هو الإسلام دين المحبة العليا !
خاتمة المشاهد.
إن جمالية الدين راجعة إلى ما بُنِيَ عليه الإسلام من معاني المحبة و الخير للناس.. فيكون التدين الأجمل و الأحسن، هو ذلك الذي يصدر عن قلب مشبوب بالشوق إلى الله ! فجمال الروح هو الأصل في جمال الوجود كله !
فرغ من تلخيصه و الاعتناء به

أبو عبد الرحمن يونس ابن المبارك
المالكي البيضاوي
و قد وافق تمام تصحيحه – بسطات،
من حواضر المغرب الأقصى – يوم الخميس
10 صفر 1433 هجرية
موافق ل 25 يناير 2012

السبت، 3 مارس 2012

كلمات مضيئة للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

كلمات مضيئة للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

منهج فريد في البحث العلمي
        ما فتئت، والحمد لله، مذ فتح الله عقلي على ميدان البحث العلمي؛ لا أنصت إلا إلى الدليل، ولا ألتفت إلا إلى ما قامت عليه الحجة العلمية القاطعة، أو الراجحة. لا يمنعني حق يبدو لي غدا، في بحث جديد أكتبه أو يكتبه غيري؛ أن أنقض أصنام الباطل مما دبجت بنفسي، وصنفت بيدي! لكن؛ متى كان الذي قد بدا من هذا (الجديد) راجحا بدليله الظاهر أو القاطع، لا بوهم تخيله النفس، وتزينه العاطفة، من أن هذا الكلام قد قاله (فلان) وما أدراك ما (فلان)! لأنا نقول: لقد آمنا – مذ آمنا بهذا الدين – أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
> البيان الدعوي ص6
العـالـم الـحـق
      “إن العالم إذا تجرد عن أهوائه تجردا كاملا، وانخرط في مسيرة العلم -بمفهومه الصحيح- انخراطا شاملا كان عالما بالله حقا، وأشرق عليه نور الولاية صدقا وصار محلا للاقتداء في قوله وفعله وإقراره بما نال من سر الربانية وبما قام في الأمة من مقام النبوة خلافة في التربية وإمامة في الدين”
> مفهوم العالمية ص44
مـا الفـقـه؟
      “إنما الفقه القدرة المنهجية على استنباط الحكم الشرعي، بقواعده وضوابطه الاستدلالية فهما وتنزيلا، وإلا فلا فقه، وهذا لن يتأتى إلا بمعالجة النصوص الشرعية من آيات الأحكام وأحاديثها، والنظر في النوازل الفقهية وأحوالها، ومعرفة مذاهب الفقهاء المجتهدين، ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب هذا وذاك، من الأدلة والفهوم ومعرفة قواعد النظر الفقهي مما استنبطه الفقهاء عبر التاريخ”.
> مفهوم العالمية ص62
قيمة النقد ووظيفته
      إن النقد هو أول الخطوات لتبين الطريق السليم للفهم السليم والعمل السليم… ومن هنا كان الحفاظ على حاسة النقد -بمعناها الديني- في المجتمع المسلم واجبا شرعيا، وضرورة اجتماعية بكل المقاييس.
> الفجور السياسي ص16 و62
مـا التدين؟ ومـا غايته؟ وما علاقته بالدين؟
      إن التدين هو الغاية الأولى من الدين، والقصد الأصيل من الخلق، وهذا معنى كلي استقرائي قطعي من النصوص الشرعية. والمقصود من بالتدين هو إقامة الدين على مستوى الفردي  والجماعي أي على مستوى علاقة الإنسان بره وعلاقته بأخيه الإنسان.
…وضياع الدين إنما يكون بضياع التدين.
> الفجور السياسي ص21 و27
ألا يكفي في التربية منهج القرآن ومجالس القرآن؟!
       - كفى بالقرآن منهجا لمن كان على نور من ربه.
> مجالس القرآن ص14
      - مجالس القرآن منهج تربوي أسسه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانخرط فيه أصحابه عليم رضوان الله واستمروا به بعد موته الله صلى الله عليه وسلم مدرسة تخرج أفواج التابعين! ولم يزل بعد ذلك أفواج نموذجا مقصودا -عبر التاريخ- للعلماء العاملين، وللمجددين الربانيين!
> مجالس القرآن ص15
       - القرآن إذا فُعل في المجتمع صار محركا يشتغل بنفسه! ومعملا مبرمجا من عند الله يشتغل بصورة تلقائية لتخريج الأجيال وصناعة الأنفس على عين الله ووحيه!
> مجالس القرآن ص16
لـماذا يركز المشروع التفسيقي السياسي في المجتمع على المرأة؟
     المرأة هي المحور الأول والأساس الذي يقوم عليه المشروع التفسيقي السياسي بكل اتجاهاته! وفي هذه القضية بالضبط تلتقي هذه الاتجاهات كلها مع المشروع الصهيوني!
> الفجور السياسي ص53
الأسـرة وأثرها فـي الـمجتمع
      الأسرة هي المحضن الوحيد للتدين عندما تفسد، تفسد كل المحاضن الاجتماعية، أو تستحيل بفعل استعماري، أو طغيان علمان، أو أي سبب من الأسباب. إن الأسرة هي المقر الأمين الوحيد لاستمرار التدين في الناس، ومن هنا كان هدمها هدم آخر معاقل الدين في المجتمع!
> الفجور السياسي ص54
العـلـم والإمـامـة
     كان الصحابة يرون العلم شرطا في الإمامة السياسية والتربوية على السواء.
> التوحيد والوساطة 1/115
العـلـم والـعـمـل
      إن العلم هو الطريق الصحيح للعمل.
> التوحيد والوساطة 1/110
مـن هو الـمربي الحـق
       إن المربي هو الذي يقوم بتنمية الفرد وترقيته في مراتب التدين، والتشكيل البنيوي لشخصيته، على أساس التجرد والاستقلال.
> التوحيد والوساطة 1/58
لا قوة تأثيرية أعظم من قوة القرآن
       إن للقرآن الكريم من حيث هو معان، ومن حيث هو عبارات معا، قوة تأثيرية لا يمكن أن توجد في كتب الناس وأفكارهم  وتذوقاتهم ومواعظهم، فهو وحده المتعبد بتلاوته حرفا حرفا.
> التوحيد والوساطة 1/46-47
كفاية القرآن في الإصلاح وعلاج أمراض النفوس والمجتمعات
       ليس أقدر من كتاب الله تعالى على بناء الأنفس والمجتمعات على الفطرة، أو إعادة بنائها على وازنها أو ترميمها إذا كان حصل فيها انحراف أو ضلال !
> مجالس القرآن ص18
      - عجبا لمن يطلب  العلاج النفسي والحل الاجتماعي في أقصى الدنيا وأبعد الحدود وهذا الشفاء الرباني أقرب إليه من حبل الوريد! القرآن!
> مجالس القرآن ص19
أثـر منهج التدبر فـي التخلق بأخـلاق القـرآن
       الحقائق الإيمانية والحكم القرآنية لا تصطبغ بها النفس إلا عند التدبر والتفكر! وذلك هو معنى التخلق بأخلاق القرآن حيث تصبح تلك الحقائق وتلك الحكم خلقا طبيعيا للمسلم.
> مجالس القرآن ص47
الوظيفة الجوهرية للعمل الدعوي
        - إن الوظيفة الجوهرية للعمل الدعوي هي تنمية قابلية التدين لدى الإنسان على قابليته للفساد.
        - إن الانهماك الجاد والمستمر في تنمية التدين بالمجتمع من خلال التدين نفسه -أصوله وفروعه- هو الكفيل بالقصد الأول ببناء الشخصية الدينية للمجتمع وتحصينه بعد ذلك من كل محاولات الهدم والتخريب المحلية والخارجية! إن المجتمع المتدين له -بالإضافة تدينه- إيجابيتان من الناحية الدعوية:
        - الأولى أنه يستوعب الحركة الإسلامية وتستوعبه فيتداخلان ويتبنى طروحاتها التغييرية  فلا تعاني الحركة من أي حصار اجتماعي ما لم تضربه على نفسها بنفسها!
        - والثانية : أنه يلفظ كل شخص، أو حزب، أو حكومة، تعمد إلى مس مقدساته الدينية بسوء! إنه حينئذ كالجسم القوي المناعة يلفظ الجرثوم ويرفضه بصورة تلقائية دون حاجة إلى جرعات الدواء.
> الفجور السياسي ص73- 74
قضايا تجديد الدين
       - “إن أصول تجديد الدين الذي هو غاية كل مشروع إسلامي من حيث هو مشروع (اجتماعي) -بالمعنى الشمولي للكلمة- قائمة أساسا على القضايا الثلاث المفصلة قبل:
أ – تحرير مفهوم (الدعوة إلى الله) مما شابه من دسائس شركية خفية، وإخلاص الوجهة فيه إلى الله. ومخاطبة الوجدان الوجودي لدى الإنسان بذلك. كما هو الشأن في الخطاب الدعوي القرآني.
ب – تجديد الوعي برسالية القرآن الكريم كخطاب إلهي لكل الناس بشكل فردي وجماعي.
ج – احترام مراتب الأولويات في المنهاج الدعوي كما هي مرتبة في التشريع الإسلامي، وذلك بطلب القرآن قبل السلطان. والعمل للدين قبل الدولة. وعدم الافتتان بالوسائل عن الغايات”.
> البيان الدعوي ص 169
غاية الوحدة في العمل الدعوي
     الأساس من كل عمل وحدوي، هو توحيد التصورات، فيما يتعلق بفهم الدين والتدين، وفهم الواقع وتفسيره، للوصول إلى وحدة لا تلغي الاختلاف الطبيعي الفروعي، فيما يتعلق بمجال التنزيل، للعمل الدعوي الإسلامي.
> التوحيد والوساطة ج2 الخاتمة
حـاجـة  الأمـة للعلمـاء
      إننا أيها السادة الكرام، في حاجة ماسة إلى صناعة جيل من الرواحل، جيل من الأقوياء الأمناء، لمواجهة التحديات العالمية، التي تحاصر حركة الوعي الإسلامي الحديث، في كل مكان، وتحول بينها وبين مقاصدها العظيمة، وتربك مشروعها، لإعادة تشكيل العقل الإسلامي المعاصر!
      وإنها لعمري صناعة، لا تتم إلا بتكوين المسلم القرآني، الذي يستمد صفاته، ومواصفاته، من صفات الأنبياء، ومواصفاتهم، وخصائص الأولياء، وربانيتهم، كما وردت بذلك نصوص القرآن والسنة الصحيحة أساساً. وهو أمر لا يتم إلا بوضع التصورات التربوية، بناء على هذا القصد، وانطلاقاً من هذا الأساس، وإخراج البرامج العملية لذلك، نصوصاً قرآنية وحديثية، وإعادة قراءة السيرة النبوية كنموذج تطبيقي، لاكتشاف سنن التربية العملية، والمعالجة التفصيلية للنفوس، والأشخاص، ثم المعالجة الكلية للظروف والمواقف، والمراحل، ولا علينا بعد ذلك إذا اختلفنا في الانتخاب، والاستخراج، إذا انضبط لنا التصور الكلي، والمنهج العام للتربية.. ثم لا علينا بعد ذلك، إن استفدنا من عقل الفقيه، أو مواجد الصوفي، أو تعليلات المفكر والسياسي، ما دام النص هو الحَكم التُرضى حكومته بيننا جميعاً.
> التوحيد والوساطة ج2 الخاتمة
دعوة إلى الرجوع إلى القرآن والسنة للاستمداد منهما
       فإلى القرآن والسنة أحبتنا الكرام، نستمد منهما تصوراتنا، ومناهجنا، وبرامجنا، في التربية، والتكوين، والإعداد والتوجيه، والترشيد، عسى أن يبارك الله خطواتنا، فتثمر بإذنه عز وجل ما نرجوه من خير لهذه الأمة، الممزقة مرتين! مرة بيد المفسدين، وأخرى بيد المصلحين، مع الأسف الشديد! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
> التوحيد والوساطة ج2 الخاتمة
مــا العـمــران؟
       “العمران هو بناء الإنسان بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.
       وكما يكون فكر الإنسان وتصوره للحياة، تكون عمارته المادية، فالمادة تبع للفكر، وكما كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على نظام أولويات فكذلك كل بعثة تجديدية يجب أن تقوم على ذلك النظام من الأولويات بلا حرفية ولا ظاهرية وإنما بمنهجية مقاصدية، حفاظا على سر الإرث النبوي، وطلبا للصواب في المنهج ورغبة في استجابة النتائج بإذن الله، ودور الجيل الجديد اليوم هو تجديد ذلك العمران بدءأ بتجديد الإنسان ككل، حتى تجديد السلطان كمفهوم.
       والإنسان هو أهم عناصر العمران، وأول مرتكزاته، فهو الذي يعطي للبناء معناه العمراني. وقصده الكامن فيه هو الذي يجعله مسجدا أو خمارة!…
      والعمران القرآني له قضايا رئيسية في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند هندسته،  وعليها يقوم بناؤه. فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء البعثة المحمدية وعمارتها، عليها كانت تدور أولوياته التي نحسب أنها ثابتة لا تتغير بمصر، ولا تتبدل بعصر، وهي التوحيد بما هو إخلاص، والعبادة بما هو شعائر، والمجتمع بما هو علاقات ومؤسسات، ثم علم الدين بما هو إطار للتجديد والاستمرار”
> الفطرية 209- 210
الـمنهـج القــرآنـي منهـج تـربوي عمـراني
       إن المنهج القرآني منهج تربوي عمراني، يَعْمُرُ حياة الإنسان بصناعة الوجدان، وببناء النسيج الاجتماعي؛ بناء تربويا تعبديا. فتمتد  الحياة الإيمانية بصورة تلقائية -إذا أُحْكِمَ المنهج بقواعده- إلى كل المجالات، بما في ذلك المجال السياسي. الأَوْلَى فالأَوْلَى. تماما كما تسري الروح في كل خلايا الجسم، وكما يسري الماء في كل أغصان الشجرة، انطلاقا من الجذور إلى جذعها، ثم إلى سائر أفنانها ووريقاتها.                                                                                                              البيان الدعوي ص10
بقلم : د فريد الأنصاري

الأربعاء، 1 فبراير 2012

حب النبي بين الاتباع والابتداع


كلامنا الليلة بحول الله عز وجل عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما،
وليس معنى ذلك أننا نحتفل بما يسمونه عيدا للمولد وإنما نريد إ ن شاء الله عز وجل ونرجو ونحاول أن نقول كلمة الحق وكلمة الوسط  بناء على كتاب الله وسنة رسول الله عليه  الصلاة والسلام،  فما كان لنا أن نقول ببدع المبتدعين، وما كان لنا أيضا أن نقول بتعنت المتعنتين وبتشدد المتشددين، وإنما الدين وسط  "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" عليه الصلاة والسلام.
       وأحب ههنا أن أذكر أن الاحتفال بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام بالتاريخ المذكور ( الثاني عشر من ربيع الأول)، أولا من الناحية التاريخية ليس أمرا مقطوعا به إنما هو مظنون لا أقل ولا أكثر، بل الثابت أنه عليه الصلاة والسلام  توفي في هذا اليوم، وللتاريخ، ليس معنى ذلك أننا سننقص من قيمة رسول الله، حاشى ولا من حبه وحب آله عليهم الصلاة والسلام ، ولكن نرجو أن نسير إلى المنهج العدل الوسط في ذلك لا إفراط ولا تفريط، لا غلو، لا في هذا الاتجاه ولا في الاتجاه المعاكس، وسأبين بالأحاديث الصحيحة بحول الله عز وجل المنهج الوسط فيما يتعلق بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وفيما يتعلق باتباع سنته والاحتفال بخلقه وبمنهجه (الاحتفال: أي الاهتمام والاتباع ). 
        أول من احتفل، بالشكل البدعي، بمولد النبي عايه الصلاة والسلام رجل يهودي ادعى الإسلام، هكذا وقع في التاريخ، رجل يهودي ادعى الإسلام ودخل في مذهب الخوارج وأسس الدولة الخارجية بالمغرب في سجلماسة، هذا معروف في التاريخ، ثم بعد ذلك إذ فشلت حركته في المغرب انتقل ذلك التيارالمنحرف إلى تونس ثم إلى المشرق في شكل ما سمي في التاريخ بدولة العُبيدييين، أو يسمون أنفسهم بالفاطمييين، ونسبهم إلى فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام لايثبت لأن زعيم هذه الحركة يهودي أصلا، وبدل وغير في دين الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد وقع هذا في كثير من الأمور في عقائد المسلمين وفي سنن النبي عليه الصلاة والسلام مما وضعه الزنادقة واليهود الذين ادعوا الإسلام، والمجوس عباد النار الذين تمظهروا بالإسلام ليخربوا دين الله وسنة رسوله من الداخل، وسموا في التاريخ وفي كتب الفقهاء بالزنادقة. 

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More